رسالة لم يسمعها إلا القلب

محمد تهامي
كان مساء الأحد 02 نوفمبر 2025 عاديًّا في مظهره، غير أن القدر خبّأ فيه لحظةً تُكتب بالدمع لا بالحبر.
د. إسماعيل ، الصديق الحميم للمعلم والإداري الفذ أبي بلال علام، اعتاد أن يتواصل بين الحين والآخر مع أنس علام، ليطمئن على صحة والده الذي لم يكن يومًا مجرد أستاذٍ في الإدارة أو الأدب، بل كان حالةً من الإلهام والسموّ الإنساني، يُملأ المجلس حضورًا كما تملأ الوردة المكان عطراً.
تأخّر أنس في الرد، فأرسل إسماعيل رسالة صوتية قصيرة، امتزج فيها عتاب المحبة بنغمة الشوق، كمن يقول: أما زال الغائب بخير؟ أما آن للحنين أن يُجاب؟ وفي ساعةٍ متأخرةٍ من مساء الأحد، جاء الصوت الذي لم يكن في الحسبان… صوت أبي بلال نفسه، بعد طول غياب وصمتٍ أثقله المرض. لكن أي صوتٍ هذا؟
لم يكن الصوت ذاته الذي كان يملأ المجالس بهجةً وحديثًا ونورًا، ذاك الذي كان يُدير الحديث كما يُدير الربّان سفينته في بحرٍ من الفكر والذوق. لقد صار الصوت واهنًا، كأن كل حرفٍ يخرج من خلف ستارٍ من الألم، ومع ذلك ظلّ يحمل من المهابة والرقيّ ما يجعل المستمع يخشع.
وقف إسماعيل مذهولًا، وكأنّ الزمن توقف. لم يكن يسمع كلماتٍ فحسب، بل يسمع تاريخًا من الوفاء، وشلالًا من المواقف التي لا تُنسى.
ذلك الرجل الذي ما تعامل معه أحدٌ إلا خرج بأثرٍ منه لا يُنسى. وأن الإدارة ليست سلطة، بل فنّ تربيةٍ للنفوس قبل العقول، وأن الأدب ليس ترفًا لغويًا، بل مسؤولية إنسانية تجاه الجمال والحقيقة. كان أبو بلال علام مدرسةً في الرؤية، موسوعةً في المعرفة، ومرآةً تعكس ما قاله الرافعي يومًا: “النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تحتمل الآلام العظيمة في صمتٍ نبيل.”
وحين انتهت المكالمة القصيرة، سكن كل شيءٍ حول إسماعيل، كأن الزمن توقّف احترامًا لتلك اللحظة.
بقي صامتًا، والقلب وحده يواصل نبضه، مفعمًا بالحنين، محمّلًا بما لا يُقال. لم يجد سوى أن يحدّث كاتب هذه السطور بما جرى، فحين نقل المحادثة، خيّم الصمت علينا، ثم غلبتنا الدموع، تفيض دون استئذان.
لكنها لم تكن دموع حزن، بل دموع عرفانٍ خالص، إذ لا تذرف العيونُ دمعها إلا لمن مرّ بالأرواح مرورَ الأنبياء: لطيفًا، نقيًّا، مؤثرًا، لا يُنسى.
ولعلّ سرّ التأثّر أعمق، فكاتب هذه السطور كان – وما زال- تلميذًا لكليهما… يشهد أثرهما في قلبه قبل أن يراه في الناس، فوجدت نفسي أمسك بالمداد لأكتب، قبل مغرب جمعةٍ 07 نوفمبر 2025، لا لأن الكتابة فرضت نفسها، بل لأن القلب هو من أملى. وكيف لا؟ وذلك الرجل – أستاذي أبو بلال علام – هو من منحني قبل أعوامٍ بوصلة الطريق في الإدارة والحياة معًا. كان يعلّمنا أن الإدارة ليست أوراقًا تُوقَّع ولا أوامرَ تُلقى، بل هي فنُّ فهمِ الإنسان، قبل ضبطِ النظام.
قال لي يومًا، في لقاءٍ لا أنساه: “يا محمد، المدير الحقيقي لا يُقاس بما يُصدر من تعليمات، بل بما يُنبت من قلوب.” تلك العبارة كانت بالنسبة إليّ بابًا إلى عالمٍ جديد، أدركت من خلالها أن الإدارة ليست سلطةً تُمارس، بل رسالةٌ تُؤدّى، وأن أعظم من يدير الناس هو من يدير نفسه أولًا. ومن يومها عرفتُ أن الكلمات لا تُكتب لتُقرأ، بل لتُخلّد أثر صاحبها،
تمامًا كما كان أبو بلال يُدير بعقله بحكمة، ويقود بروحه برحمة. فهو لا يفصل بين الإدارة والأدب، لأن كليهما عنده وجهان لجوهرٍ واحد هو الإحسان. كان يمارس الإدارة كما يمارس الأدب: بإتقانٍ، وذوقٍ، وإيمانٍ بأن الإنسان أثمنُ من الإنجاز.
كم كانت تلك الجملة مفتاحًا لمعانٍ كثيرة. منذ ذلك اليوم أدركت أن الكلمات لا تُكتب لتُقرأ، بل لتُخلّد أثر صاحبها. وما كان لأبي بلال أن يعلّم إلا من جوهره؛ فالرجل يمارس الإدارة كما يمارس الأدب، ويمارس الأدب كما يمارس الإحسان. في حضرته تشعر أن النظام ليس جمودًا، وأن الحكمة ليست تنظيرًا، وأن الهيبة لا تُنافي التواضع. كان – ولا يزال – من أولئك الذين يُثبتون أن الإنسان يمكن أن يجمع بين صرامة الفكر ورقّة الشعور، بين دقة الإدارة ورحابة الأدب. ومن عاشره، يعلم أن روحه كانت – كما قال عبدالله بن المبارك – ألينَ من الحرير في المعاشرة، وأثبتَ من الجبال في المبدأ. ذلك المزيج النادر هو ما جعل تأثيره يتجاوز حدود المكان والزمان. إنه من طرازٍ خاصٍ من الرجال، الذين إذا غابوا عن المجلس بقي عبقهم فيه، وإذا سكتوا ظلّت كلماتهم تدرّس.
كان حديثه يُنصت له الناس لا لأنهم مأمورون، بل لأنهم مأخوذون بجمال منطقه وصفاء قلبه.
في زمنٍ امتلأ بالضجيج، كان أبو بلال علام يعرف متى يصمت. وفي زمنٍ امتلأ بالادّعاء، كان يعرف متى يتكلم.
فإذا تكلم، لم تكن عباراته كلماتٍ تُسمع، بل قيمًا تُغرس. كل فكرةٍ منه كانت درسًا، وكل لحظةٍ معه كانت حياةً مصغّرة. ولأن الله يُكرم عباده الصادقين، فقد رزقه محبة الناس في حياته، ودعاءهم في مرضه. ها هو اليوم، وهو على فراش المرض،يعلّمنا درسًا آخر في الصبر، درسًا لا يكتبه بيده، بل يُلقيه علينا من عمق التجربة. وكأنّي به يقول: “ليس الضعف أن يمرض الجسد، بل أن ييأس القلب.”
أما صديقه د. إسماعيل أبو أحمد، فقد كان مثال الصديق الوفي الذي لا تُغيّبه المسافات ولا تشغله الأيام.
صداقةٌ لم تبنَ على المصالح، بل على المحبة الخالصة، تلك التي قال عنها الرافعي: “الصداقة الحقيقية هي روحان في جسدٍ واحد، يتنفسان الحنين معًا وإن فرّق بينهما العمر.”
إن العلاقة بين أبي أحمد وأبي بلال، هي صورة نادرة للوفاء في زمنٍ تفرّقت فيه المشاعر على أرصفة المصالح. وحين تتلاقى أرواحٌ بهذا الصفاء، فإن اللقاء لا يحتاج إلى موعد، ولا إلى مناسبة؛ لأن الوفاء لا يُدعى، هو يأتي وحده، متى شاء الله أن يُذكّرنا بالجميل.
كتبت هذه الكلمات قبل غروب الجمعة، والسماء تصطبغ بلونٍ من الحنين. لم تكن الكتابة مقصودة، بل كانت صلاة من نوعٍ آخر. في كل سطرٍ منها دمعة، وفي كل فاصلةٍ منها دعاء، وفي كل نقطةٍ منها امتنان. اللهم اشفِ أبا بلال علام شفاءً لا يغادر سقمًا، وأكرمه بنورٍ يملأ أيامه طمأنينة، وصحةً تُعيد لصوته رنّته، ولروحه ألقها. اللهم بارك في أبي أحمد إسماعيل، وازده بحبّك وفضلك، وارفد كليهما بعافيةٍ تمتدّ إلى القلب قبل الجسد. اللهم احفظ كل من علّمنا بحاله قبل مقاله، وبأدبه قبل منطقه، وبإخلاصه قبل اسمه. واجعل هذا القلم شاهدًا على أن الوفاء لا يموت، وأن الأصوات وإن ضعفت، يبقى صداها يعلّمنا كيف نحيا بنبلٍ وجمال.




