تأملات في خطاب وزيرة التعليم الأمريكية إلى هارفارد

محمد تهامي
ما أغرب أن يسقط القلم حين يُرفع باسم الدولة، وأن يزلّ اللسان حين يُفترض به أن يوجّه عقولَ الأمم! في مشهدٍ يكاد يُدرّس لا في كليات البلاغة فحسب، بل في مدارس السياسة الأخلاقية، أرسلت وزيرة التعليم الأمريكية في إدارة ترامب خطابًا صارم اللهجة إلى جامعة هارفارد، توبّخ فيه الجامعة العريقة على مواقفها وسياستها وموقعها من الأحداث الوطنية… فإذا بالخطاب نفسه ــ في مفارقة فاضحة ــ مشحونٌ بأخطاء لغوية وإملائية وتركيبية تصرخ كأنها اعتراض نحوي على منطق السلطة.
فما بين خلط في علامات الترقيم، وسوء ترتيب في الجمل، واستعمال مشوّه للمبني للمجهول، وانزلاقات اصطلاحية تُربك القارئ وتُثير الشك في كفاءة الكاتبة، بدا الخطاب وكأنه شهادة فنية على ما تدّعي الوزيرة محاربته: الانحدار في المستوى التعليمي!
إن من يكتب باسم “الحكومة الفيدرالية” لجامعة كالهرم العلمي، يفترض أن يتحلّى لا فقط بمصداقية الخطاب، بل بمهابة البيان، وهيبة العبارة، وفصاحة التوجيه، وتناسق الرسالة مع هيبة المنصب. لكن الخطاب كما أُرسل ــ وقد اكتظّت أطرافه بتصويباتٍ وتعليقاتٍ من محررين محترفين ــ أشبه بمن يُلقي محاضرة في تهذيب السلوك وهو يصرخ في وجه المستمعين.
لقد كان العقّاد ــ وهو من أفصح أهل البيان ــ يقول: “الفصاحةُ خُلُقٌ قبل أن تكون لسانًا.” وهنا بيت القصيد. إذ كيف نثق في منظومة تعليمية، تدّعي قيادة الأمة نحو “تفوق لغوي وأكاديمي” في حين أن رأس هرمها يرسل خطابًا لا يصلح أن يُنشر في صحيفة طلابية مبتدئة؟!
أما المنفلوطي، فلو قرأ هذا الخطاب ــ وقد كان من عشاق التهذيب في العبارة والروح ــ لأدار ظهره للحياة الصحفية كلها، أو كتب مقالة عنوانها: “مآسي البيان في زمن السياسة”. فلو أن هذا الخطاب صدر عن طالب جامعي، لعُدّ دليلاً على ضعف في التكوين، أما أن يصدر عن وزارة تعليم، فهذا لعمري أقرب إلى السخرية السوداء.
ثم، كيف نفهم أن تُعنّف الوزيرة جامعة بحجم هارفارد ــ رمز التميز الأكاديمي في العالم ــ وهي تعجز عن تركيب جملةٍ دون أن تتعثر؟! وكيف يمكن لخطاب يفترض به أن يُعيد “الهيبة والجدية للمنظومة التعليمية” أن يكون أول مثال على غياب الجدية والاتزان في الصياغة؟!
أراد الخطاب أن يكون مانعًا للتسيّب الأكاديمي، فإذا به نموذجًا للضعف المؤسساتي، وأراد أن يكون درعًا للأخلاق العامة، فإذا به طعنة في ظهر الاحتراف، وأراد أن يكون صوت الدولة، فإذا به همس ارتجالي متكسر الحواف. وكأنّ السياسة حين لا تتكئ على المعرفة، تفضح نفسها بأدواتها، وتنقلب على نواياها بأبجديتها.
وهنا يحضر سيبويه، شيخ النحاة، من ظلال اللغة، ليقول في دهشة: “ما لكم كيف تحكمون؟! أفي موطن التقويم والبيان، تُرتكب هذه السقطات التي لا يُعذر فيها حتى طلاب النحو المبتدئين؟!”. ولو عرضنا هذا الخطاب على أهل الكوفة والبصرة، لعاد النزاع القديم بين المدرستين، لا على إعراب جملة، بل على تعريف المعنى ذاته: كيف تكون الحجة ضعيفة في بنيتها، مشوشة في ترتيبها، سطحية في استدلالها، ثم يُراد لها أن تُحدث تغييرًا؟!
لسنا هنا في معرض الشماتة، ولا في مقام النقد اللغوي المجرد. بل نحن أمام مشهد يُعرّي أزمة عميقة: أزمة شكل ومضمون في الفكر السياسي المعاصر. إذ لم تعد اللغة أداةً راقية للتوجيه، بل صارت في كثير من الأحيان ملاذًا للهروب من المعنى، أو مجرد ستار للغضب والانفعال.
ما حدث، في جوهره، ليس خطأ إملائيًا أو نحويًا، بل هو فشل في الانسجام بين الروح والعقل، بين المنصب والمسؤولية، بين الفكرة وصياغتها. وكأنما فقدت الدولة ــ حين كتبت بهذه الطريقة ــ جزءًا من احترامها لذاتها، قبل أن تُطالب الآخرين باحترامها.
وفي النهاية، فإن التاريخ لا يدوّن الخطابات كما هي، بل يسأل دومًا: من كتب؟ ولماذا كتب؟ وكيف كتب؟ وهذه “الكيف” التي يغفل عنها كثيرون، هي ما يرفع الكلام من مجرد بيان سياسي إلى وثيقة فكرية خالدة، أو يسقطه إلى أرشيف النسيان والخيبة.
فلنتعلم ــ من هذه الحكاية ــ أن اللغة ليست زينة، بل مرآة، وأن البيان ليس ترفًا، بل التزام، وأن الكلمة إذا خرجت من فم الدولة، وجب أن تُحسن الوضوء قبل أن تصعد منبر السلطة.
والله وليُّ القلم إذا طهر.