المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

حين تنحني اللحظة لتُقبل الذاكرة… وظرفٌ يسلك درب الحنين إلى طارق

محمد تهامي

لم يكن ذلك اليوم سوى امتدادٍ هادئ لأيامٍ تتعاقب بنظامٍ لا يبالي بما يعتمل في الأرواح. إلا أن الزمن، وإن بدا ساكنًا، يخبئ في بعض اللحظات ما يُعيد ترتيب القلب، ويقلب سكينة الأيام إلى دهشةٍ لا توصف. ففي مساء ذلك اليوم، تلقّت شقيقتي محاسن ظرفًا صغيرًا من يدٍ لا تُشبه إلا الوفاء، وفاء، ابنة السيدة التي لم تكن يومًا مجرد عابرة في حياتنا، بل كانت ومضة ودادٍ لا تنطفئ. لم تتكلم وفاء كثيرًا، لكنها كانت، كما يدل اسمها، صورة من النبل المصفّى، وقد حملت بين يديها الظرف كما يُحمل قلب أمٍّ في يدِ ابنتها، ووضعت فيه أكثر من ورقة، أكثر من ذكرى، وضعت فيه زمنًا لم يمت.

ما إن تسلّمت محاسن الظرف، حتى اهتز في صوتها شيءٌ لا يشبه المعتاد. سجّلت لي رسالة قصيرة، وبدت في كلماتها كما لو كانت تُخبرني بوصول طائر أليفٍ غاب عن العشّ لسنوات، ثم عاد يحمل في ريشه عبق الأمس ودفء الرحيل. قالت: “حبيبي… وصلت أمانة وهدية ماما وداد، وبانتظار قدوم أحد الأبناء ليحملها ويوصلها لك… طارق حبيبي.” لم تكن الكلمات كثيرة، لكنها كانت كافية لتهزَّ القلب كما يهتزُّ جرسٌ قديم في كنيسة مهجورة، حين يدوي فجأة في صمت الربوة النائية.

طارق. اسمٌ يحمل في صوته وقع الخطى على أبواب لم تُفتح بعد. طارق، القادم من عمق التجربة، من مدائن الارتباط الإنساني، من تلافيف الذاكرة التي لا تنام. وحين يصل الظرف، فإن الأمر لم يعُد مجرد تسليمٍ لأمانة، بل لقاء بين الغياب والحضور، بين ودادٍ تركت الدنيا، وودادٍ لا تزال تطلّ من نافذة الذكرى لتقول: أنا هنا، لم أغب. وهل تغيب الأرواح النقية؟ من تُدعى “وداد” لا ترحل، لأن اسمها وحده يحفظ لها الخلود، فهو العاطفة إذا تجلّت، وهو الحنين إذا نطق، وهو الحب إذا قرّر أن يترك بصمة لا تُمحى.

أما محاسن، فهل ثمة اسمٌ أنسب لتلك التي وُضعت في هذا المشهد لتكون الجسر بين الرسالة ومتلقيها؟ كانت بحقّ جميلة الجوهر، كريمة الموقف، أليفة العطاء، وقد أخذت الظرف من يد وفاء، لا لتضعه جانبًا، بل لتجعل منه نشيدًا يُردد في حضرة من يعرف قيمة الوعد إذا صيغ بحبر القلب. ووفاء، كما هي، لم تكن فقط ناقلة وصية، بل كانت الوصية ذاتها، الحافظة لعهدٍ قديم، الكاتمة لنبض ظل حيًّا في صدرها لسنوات، ثم أطلقته حين جاء أوانه، فاستعادت بذلك وجه أمّها، بل لعلها أحيتها مرة أخرى، بذاك السلوك الذي لا يقدر عليه إلا الصادقون.

كان المشهد كله مشبعًا بما لا يُقال. لم يكن ظاهره سوى ظرف، ورسالة، وابنة تسلم، وأخرى تُبلغ، لكن في جوفه كان الوجود يتنفس ببطء، كأنه يخشى أن يوقظ من لا يُراد لهم أن يغيبوا. وقد كنت، في تلك اللحظة، أقف خارج المكان، أستمع للصوت، وأتخيل الظرف، وأشمّ رائحة حبر وداد، وأكاد أسمع صمتها كما كان يُسمع وهي حيّة: عميقًا، مشبعًا، مليئًا بما لا يقال.

وحين فكرت في أن أحد الأبناء سيحمل الظرف إليّ، بدا لي الأمر كما لو أن مشعلًا يُنقل في سباق الأرواح، من يدٍ إلى يد، لا لتُضيء فقط، بل لتُدفئ. ما أثقل هذا الظرف! ليس بوزنه، بل بما يحمله من حنين، من معنى، من شهادة حية على أن الحب لا يقف عند حدود الحياة، وأن الذاكرة النقية لا تنسى، حتى وإن بدت الحياة وكأنها مضت.

لقد علّمتنا وداد — وهي تبتعد — أن بعض الناس لا يرحلون، بل يختبئون في التفاصيل، ثم يعودون في اللحظة المناسبة، ليمنحونا ما لا يُشترى. علّمتنا أن الحُب لا يُقاس بالدم، بل بالنية. وأن الأمومة، حين تصفو، تتجاوز الجينات والألقاب، لتصبح مقامًا من مقامات العطاء اللامشروط. وهل هناك أمٌّ تُرسل هدية لابنٍ ليس من صلبها، بعد سبع سنوات من رحيلها، إلا إن كانت قد ربّت قلبها على الخير حتى أصبح له عقلٌ وذاكرة وأصابع تُوصي وتُسلّم وتُهدي؟

ثمّة لحظات لا تُكتب، بل تُرتّل. لحظات تجعلنا نعيد قراءة معنى الحياة، لا في ضوء الإنجازات، بل في ظلال العلاقات. واللحظة التي حملت فيها محاسن الظرف من يد وفاء، لم تكن حدثًا عابرًا، بل كانت تدشينًا لرسالة لا تنتهي. رسالة تقول لنا إن الوفاء لا يُشترط أن يُعلَن، يكفي أن يُمارَس. وإن المحبة الحقة لا تبحث عن مقابل، بل تكتفي بأن تُوصّل رسائلها، وتنسحب بهدوء، كما فعلت وفاء تمامًا.

أما أنا، فقد شعرت أني لم أعد أنتظر الظرف، بل أعيش معه. كل خطوة لي من تلك اللحظة باتت مشيًا في اتجاهه، كأنما هو المحطة الأخيرة في سكة طويلة من العلاقات التي لا تُنسى. لقد أصبحت أراه في نومي، وأحلم به كأنما هو الباب الذي سيفتح لي على ودادٍ تعود، لا بجسدها، بل بروحها، بحبرها، بخطها، بوصيتها.

وهكذا، حين يحمل أحد الأبناء الظرف إليّ، سيكون قد حمل إليّ عمرًا مضى، ورسالةً بقيت، وحنينًا لم يمت. سيكون قد أوصل أكثر من هدية: سيكون قد أعاد إليّ قلبًا سكن طويلاً في صدر امرأة عظيمة، اختارت أن تحبّ بطريقتها، وأن تترك فينا أثرًا لا يُمحى.

فبورك الظرف، وبوركت اليد التي حملته، وبوركت تلك الأرواح التي لا تزال تُعلّمنا — بصمتها — أن الخير ممكن، وأن الذاكرة لا تموت، وأن الأسماء حين تتجسّد في أصحابها، تصنع من الحياة قصيدة لا تنتهي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى