المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

«ما وراء الشتاء».. رواية عن المهاجرين والحب المتأخر

 

تخرج رواية ايزابيل الليندي «ما وراء الشتاء»، الصادرة حديثا، عن سياق رواياتها السابقة المصنفة بمعظمها في اطار الكوميديا السوداء، التي تمزج حس الفكاهة بالسوداوية. نحن امام رواية تشغل فيها الانفعالات والعاطفة حيزا واسعا تبرع فيه الليندي في جعل شخصياتها واحداثها تنتقل بخفة مذهلة بين الدعة والكآبة خارج أي اتساق او توقع.

قبل أيام صدرت بالعربية بالتعاون بين مكتبة «تنمية» في القاهرة ودار «الآداب» في بيروت، وقد انجز الترجمة من الاسبانية الى العربية صالح علماني.

لقاء المهاجرين
تروي الليندي سيرة ثلاث شخصيات من المهاجرين الوافدين الى الولايات المتحدة، من بلدان تركت داخل كل واحد منهم شروخاً وتشوهات تصعب مداواتها. إيفلين أورتيغا، مهاجرة غير شرعية هربت من غواتيمالا في ظروف مروعة لتقيم وتعمل في الولايات المتحدة بأوضاع لا تقل سوءا. لوسيا ماراز استاذة جامعية من اصول تشيلية تجاوزت الستين من عمرها، أقامت في كندا لعقود قبل ان تنتقل الى الولايات المتحدة. وأخيرا ريتشارد بووماستر في الستين من عمره باحث اكاديمي كئيب ومنعزل، ويحاول صد محاولات زميلته الجامعية لوسيا بسبب تجربة زواج سابقة بشابة برازيلية حولت حياتهما في ريو دي جانيرو الى سلسلة من المآسي العائلية المدمرة.

حب متأخر
تفتتح رواية «ما وراء الشتاء» على يوم عاصف ومثلج في بروكلين يتسبب بحادث مرور بسيط بين الأستاذ الجامعي ريتشارد والمربية الغواتيمالية ايفلين. ما يبدو في البداية مجرد حادثة مزعجة يأخذ بعداً غير متوقع وأكثر خطورة عندما تلجأ ايفلين مذعورة الى منزل الأستاذ الجامعي طلبا للمساعدة، لكونها لا تملك رخصة قيادة ولأن ثمة جثة في صندوق سيارتها. ذعر ايفلين وتوسلها يرغم ريتشارد الذي كيّف حياته على إيقاع لا مكان فيه للمفاجآت او الاضطرابات، على استدعاء زميلته لوسيا لطلب مشورتها في التعامل مع هذه الورطة. حادث بسيط سيبدل حياة الثلاثة ويأخذهم في مسارات لم تكن في حسبانهم، والأهم أنه سيقود إلى قصة حب غير متوقعة بين شخصين اعتقدا أنهما أصبحا على مسافة بعيدة منه بسبب البرودة التي تكتنف شتاء اعمارهما على أبواب الكهولة.
لقاء الثلاثة في بروكلين بسبب هذا الحادث سيشكل منطلقا الى تفرع السرد ومناخاته مكانيا وزمنيا. تمضي الليندي في اقتفاء ماضي شخصياتها وسيرهم في كل من غواتيمالا والبرازيل وتشيلي في حقبات من الماضي القريب والبعيد، لنكتشف ان في حياة كل منهم صندوقا اسود أكثر اثارة ورعبا من الجثة الموضوعة في السيارة.

ندوب الماضي
تعود الليندي بالزمن على طريقة فلاش باك لتكشف لنا خلفيات ابطال روايتها الخالية من أي ملمح كوميدي، بل البائسة في تراجيديتها. فنعرف ان وراء مزاجية وتجهم ريتشارد حوادث مروعة نجا منها لكنها سببت له صدمات نفسية، وأن لوسيا عانت خلال حكم الدكتاتوري بينوشيه وفقدت شقيقها، اما المربية الشابة التي يحاول لوسيا وريتشارد مساعدتها فقد تعرضت خلال طفولتها في غواتيمالا لعمليات تعذيب شوهت عقلها وجسدها.
لا تهمل الليندي اي تفصيل دراماتيكي يكشف عن معاناة اناس يخاطرون بحياتهم للمجيء إلى الولايات المتحدة، وتشي كتاباتها غالبا بتعاطف معهم، مدركة العجز والخوف الذي يعيشه هؤلاء المهاجرون المعرضون لخطر اعادتهم الى الجحيم الذي فروا منه.
تضمين الرواية مشاهد مرعبة ليس غريبا على الروائية التشيلية التي طبعت حياتها حوادث مريرة. فهي احدى الناجيات من انقلاب تشيلي في عام 1973 الذي أطاح قريبها الرئيس سلفادور الليندي آنذاك، كما انها فقدت ابنتها في عام 1992 عن عمر 28 عاما. وتناولت عبر مؤلفاتها التي تجاوزت العشرين حكايات المظلومين والمهمشين.

سيرة ضمنية
قصة إيفلين هي من بين أفضل فصول الكتاب. من خلالها تتراءى لنا فصول من سيرة الليندي نفسها في بلدها الام تشيلي، ونضالها الدائم في الدفاع عن حقوق الإنسان، لاسيما حين تروي قصة هروب ايفلين الشاق من غواتيمالا عبر المكسيك، ومنها إلى حدود الولايات المتحدة، وسط لامبالاة مسؤولي الحدود الأميركيين الذين يتعاملون يوميا مع مئات المهاجرين المحتملين.
تبرع الليندي كذلك في تصوير مشاعر الحب المتأخر بين لوسيا وريتشارد، «برفقة لوسيا، شعر ريتشارد وكأن سنوات عمره التي مرت سرقت من روزنامة عمره وعاد شابا في الثامنة عشرة. كل شبكات الامان التي سيج حياته بها سقطت امام رغبته الملحة بلوسيا. في تلك الساعات اللامتناهية من الليل، كان بصحبة احداهن للمرة الاولى منذ خمسة وعشرين عاما. التصق بها حتى كادا يتنفسان نفسا واحدا. مزيج من السعادة والرعب، من الترقب والرغبة في الهرب».
استلهمت الليندي عنوان روايتها من عبارة البير كامو الذي عاش هو الآخر تموجات من الفرح والحزن في آن معاً، «في خضم الشتاء عرفت أخيرا أن في داخلي صيفاً لا يقهر»، تختزل رغبة عميقة في مخاتلة كآبة الواقع وقتامته، لأن العالم يولد كل يوم من ضوء جديد كما يقول كامو نفسه. لكن التحدي بالنسبة للروائي يكمن في تمرير هذه الرغبة الى القارئ من دون تسخيف أهوال الحياة أو تزييف احتمالات السعادة. بمعنى آخر في عدم تحويل التبشير بالأمل الى مهزلة أخرى من مهازل الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى