من المساكين؟

محمد تهامي
قصة من المسجد النبوي رواها قلب وزيرة… فاهتزّت بها قلوب أمة، من صحن المسجد النبوي، خرج الدرس الأعظم. ومن شقوق البساطة، أشرقت الحكمة، في زحمة الأيام، وفي خضم مسؤولياتها الوزارية والتعليمية، قررت معالي وزيرة التربية والتعليم بدولة قطر الشقيقة، السيدة لولوة الخاطر، أن تفرّ إلى الله، فرار من ضجّة المنصات إلى حضرة السكينة، ومن صخب المؤتمرات إلى حيث يُلقى السكون في صدور العابدين.
كانت زيارتها للمدينة النبوية دون ترتيب مسبق، لا دعوات ولا لقاءات، فقط نيةٌ خالصة لركعتين في الروضة، واعتكاف قصير في ساحات النور، دخلت متخفّفة من كل زخرف، وجلست في صفٍ هادئ، لا يُميّز فيه أحدًا، ولا يُرفع فيه كرسي، على مقربةٍ منها جلست امرأتان، سيدة مسنّة تبدو وادعة الحضور، رزينة المحيّا، وبجانبها فتاة شابّة بعينين فيهما لطف الصبر، حسبت الوزيرة – كما حسب أيّ عابر – أنهما أم وابنتها…لكن لم يُفتح بينهنّ حوار منذ الوهلة الأولى، فكل واحدة انشغلت بمحرابها الخاص، واستغرقت الاثنتان – كما تبيّن لاحقًا: الأم وزوجة ابنها – في حديث جانبيٍ خافت، يتناجيان فيه عن ضيق ذات اليد، وتقلّب الرزق، وهمّ العيال، ثم ما لبثتا أن اعتكفتا على كتاب الله، تمضيان آياته بخشوع الصادقين، وكأنما السور الكريمة تُطهّر الجراح، وتُسكب على الأرواح بردًا وسلامًا، كانت الوزيرة قريبة تنظر إليهما بعينٍ فيها مزيج من العطف والتأمل، شعرت لوهلة أن هؤلاء من “المساكين”، البسطاء الذين لا يشغلهم إلا لقمة العيش وستر الحال.
وفجأة، ودون تمهيد، التفتت الأم إليها، ونظرت في عينيها بثبات، ثم باغتتها بسؤال بسيط، لكنه زلزل الجدار الداخلي:
– هل تحفظين كتاب الله؟
ارتبكت الوزيرة. لم تكن تتوقع سؤالًا كهذا، لا من جهة الشكل، ولا من جهة التوقيت. لكنها لم تتصنع، ولم تتلكأ، بل أجابت بأمانة: – لا. فقالت الأم، بنبرة المربي، لا المعاتبة:
– هكذا تعيشين حياتك عبثًا؟ فيمَ ضيّعتِها؟
عندها، سقط كل قناع. كل لقب، كل مسؤولية، كل إنجاز علمي، كل مؤتمر دولي، صار لا شيء أمام ميزان السماء. لم تكن كلمات الأم سيفًا، بل مرآةً، أظهرت الصورة الحقيقية بكل وضوحها. قالت الوزيرة في تأمل عميق وهي تسرد القصة لاحقًا لشباب أحد المعاهد الدينية: “كنتُ أشعر أنهنّ من المساكين، ثم أدركتُ أنني أنا المسكينة.”
يا الله… كم من مناصب وهتافات وأضواء لا تُساوي ركعتين بخشوع؟ كم من رصيد معرفي وتجارب حياتية لا تُقارن بحفظ آياتٍ تنبض بنور الله؟ تلك اللحظة – بكل هدوئها وظلالها النبوية – كانت منعطفًا. ليست وزيرة قطر وحدها من كانت شاهدة، بل كل قلب سمع القصة لاحقًا، بات مدعوًا أن يعيد حساباته.
ففي تلك الزاوية، تجلت ثلاثية الريادة المؤسسية التي لا تُكتب في تقارير، بل تُحفر في الضمائر:
▪ الاستقامة: أن تُراجع نفسك أمام الحق، لا أمام الناس، أن توقن أن معيار النجاة ليس بيد المجتمعات، بل بيد الله.
▪ الاحترافية: أن تحوّل تجربة شخصية إلى درسٍ عام، ملهم، تربوي، يتوارى فيه الحديث عن الذات، ليظهر فيه وهج الحقيقة.
▪ الاستدامة: أن تبني مشروعك الأكبر: مشروع القرب من الله، حيث لا تنقطع الصلة، ولا يفسد الهدف، ولا يتغيّر الاتجاه.
تأملتُ وأنا أسمع هذه القصة كيف أن امرأةً عجوزًا، لم تحمل شهادة، ولم تعتنِ بمظهر، ولم تُلقِ خطبًا، استطاعت أن تُربّي وزيرة! قال الإمام الشاطبي: “من لم يكن له وردٌ من القرآن، فحياته غفلة.” وهذا ما فهمته الوزيرة في تلك الزاوية النبوية، من امرأة لم تدرس في جامعات عالمية، لكنها تخرّجت من مدرسة الإخلاص. الدرس لم يكن في الكلمات فقط، بل في “من قالها” و”أين قيلت”. في المسجد النبوي، لم يكن ثمّة بيت يضمّ اللقاء، ولا ضيافة، ولا أجندة. كان المكان وحده مدرسة، وكانت الأم وزوجة ابنها هنّ المحاضِرات، وكانت الوزيرة، بكل تواضعها، تلميذة في محراب اليقظة.
إنه لأمرٌ مدهش كيف أن أعظم التحولات لا تحدث في قصور القرار، بل في محراب العبادة. وكيف أن رِقة السؤال تفعل ما لا تفعله صرامة القوانين. هي قصة “انقلاب داخلي” كتبته السماء، في لحظة صدق. لا شاشات، لا ترجمة فورية، لا وعود ولا ميزانيات… فقط، ركعتان بإخلاص تساويان الدنيا وما فيها. فما أغرب مقاييس الناس، وما أصدق موازين الله.
ملاحظة: هذا المقال مستلهم من كلمة لمعالي وزيرة التربية والتعليم بدولة قطر، السيدة لولوة الخاطر، أمام شباب أحد المعاهد الدينية في قطر، وفيها روت هذا الموقف الذي وقع داخل المسجد النبوي الشريف، كما نُشر في فيديو قصير متداول