عودة إلى مشيغان وقراءة في حركة الطلبة

«إلى الأصدقاء أحمد بشارة وعبدالرحمن العبدلي ومجرن الشلال ورمزي زيتون .. لقد غادرتم مبكراً»
لم أكن أنوي زيارة ولاية مشيغان في صيف عام 2016، إلا أنه حصل تواصل بيني وبين الصديق كارم ساق الله شجعني على ذلك. فقد كان كارم قد شارف على الانتهاء من إجازة علمية من جامعة مشيغان قضاها في مؤسسة علمية في قطر لمدة معينة. وكان مقررا أن يعود في الأسبوع الأول من سبتمبر. وحثني على أن أزوره في آن آربر خاصة وأني لن أكون بعيدا عنه نسبيا، فكان يتحتم علي أن أعود من كاليفورنيا إلى الكويت، وكان مقررا أن أقضي بعض الوقت في شيكاغو التي تبعد خمس ساعات عن آن آربر. وبدا أني اقتنعت بالفكرة، ودفعني ذلك تشجيع من زوجتي التي لم تزر ولاية مشيغان من قبل.
هذا ومعرفتي بالصديق كارم تمتد إلى أيام الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت. وأعتقد أنه في ذلك كنت أعرفه لكنه لا يعرفني. فقد كان في كلية الهندسة، وكنت في مرحلة ما قبل الطب. لكنه كان معروفا بين الطلبة الذين أنهوا الدراسة في الثانوية في الكويت عام 1970. فقد كان الأول على هذه الدفعة. لكن معرفتنا تحولت إلى صداقة بعد أن التقيت به في مؤتمر خريجي الجامعات الأميركية من العرب AAUG والذي صادف انعقاده في بوسطن عام 1988 مع رحلة عمل لي في أميركا. وفي نفس هذا المؤتمر التقيت صدفة مع أستاذي في الجامعة الأميركية د. أسعد خير الله، الذي درسنا الأدب العربي والفلسفة الإسلامية. وأذكر أنه في نفس هذا المؤتمر استمعت إلى محاضرة للسياسي والفيلسوف نعوم تشوفيسكي – اليهودي المناهض للصهيونية.
ولاية الـ11 ألف بحيرة
والحقيقة أنه مع أني قضيت أكثر من أربع سنوات في آن آربر مشيغان، لكن معرفتي بالولاية بسيطة جدا. فحياتنا كانت محصورة في هذه المدينة والمدن التي لدينا أصدقاء فيها. لكننا لا نزور المدن الأخرى إلا بسبب مثل أن نلتقي بأصدقاء ونستطيع أن نقضي ليلة أو ليلتين عندهم. فمثلا مع أن مدينة توليدو في أوهايو كانت ملاصقة نسبيا لنا، إلا أن علاقتنا بها كانت ضعيفة، لأننا لم يكن لدينا أصدقاء فيها. هذا باستثناء زيارات عشوائية تبدأ مساء، وتنتهي بعد منتصف الليل. ولخبرتي البسيطة في هذه الولاية، أود ان أعرف القارئ عليها.
ولعل أهم ما يميز هذه الولاية أنها شبه جزيرة، محاطة بأكبر بحيرات في الولايات المتحدة، والبحيرات هي: سوبيريور، ومشيغان وهيورون وإيري. إلا أن عدد البحيرات الإجمالي فيها يصل إلى 11 ألف بحيرة. وأكبر وأهم مدينة فيها هي ديترويت. وهي المدينة التي نشأ فيها توماس أديسون، وقدم فيها معظم اختراعاته. كما أنها المدينة التي بنى فيها هنري فورد أول خط إنتاج لصناعة السيارات يعتمد على تقسيم العمل إلى أجزاء صغيرة يؤديه عمال لا يتطلب منهم المهارة والخبرة في مهنة صناعة السيارات.
رحبت زوجتي بالفكرة، وأخبرتها أننا سنتوجه إلى ديترويت أولا ثم إلى آن آربر. ففي الوقت الذي توجهنا به إلى ديترويت لم يكن صديقي كارم كان قد وصل إلى آن آربر من قطر. وتعمدت أن آخذ طريقا إلى ديترويت على الطريق 75 الذي يمر على توليدو في ولاية أوهايو، لكي أتجنب طريق 94 الذي يأخذني إلى آن آربر قبل الوصول إلى ديترويت. ربما لأني لن أتمكن من المرور بمحاذاة آن آربر دون أن أدخلها. ولابد أن أشير هنا أن المدن تبقى في الذاكرة ليس لجمال الذكريات، وإنما لكثافتها ولتنوعها. لمزيج متكافل من العلاقات الإنسانية. الجميل والقاسي الذي يختلط فيه استنشاق الروائح العطرة بالسير على طرق مزروعة بالشوك والزهور. فأجمل الزهور والورود يجرج شوكها من يقطفها.
الطريق إلى ديترويت
بعد خروجنا من شيكاغو نحو طريق 75، كان معظم وقتنا نحو توليدو في ولاية أوهايو يمر في ولاية أنديانا. كان الطريق طويلا وجميلا، لكن الأرض كانت دائما مستوية مما يسبب الضجر للناظر. ولحسن الحظ، أن زوجتي سائقة ماهرة، ربما أفضل مني. لكن مهارتها أفضل على الطريقة الكويتية، فهي مثلا لا تعطي إشارة عندما تغير من خط إلى آخر كما يتطلبه قانون المرور في أميركا. وعندما أمسكت المقود قرب ساوث بيند في ولاية أنديانا، استسهلت القيادة وأعجبها الطريق، فتجاوزت سرعتها 80 ميلا في الساعة، وتفاجأت عندما تعدتها سيارة عادية مطلقة إشارات ضوئية طالبة منها الوقوف. وعندما توقفت، ترجل شرطي كان بعمر ولدي، وحدثنا بأدب عن مخالفتين، الأولى هي السرعة، والثانية أنها تعدته منعطفة على الخط الذي تسير عليه سيارة الشرطة دون أن تطلق إشارة. وأخبرنا أنه سيسامحها على الأخيرة، لكن سيخالفها على السرعة. كتب المخالفة وسلمها لنا، وأخبرنا أنه يمكننا دفع المخالفة بالبريد، أو أن نذهب إلى القاضي للاحتجاج عليها. فخاطبته: «معك حق، ونعتذر عن السرعة، وسندفعها بأسرع وقت ممكن». فخاطبني: «يا إلهي.. لم أقابل زوجين مؤدبين مثلكما». بعد هذه المخالفة، لم تطلب مني زوجتي السياقة أبدا. وبعدها بأسبوع، تناولت العشاء مع زوجين أميركيين من ولاية أنديانا، وأخبرتهما أننا تبرعنا بمبلغ 250 دولارا لولاية أنديانا لتحريك عجلة الاقتصاد فيها.
الطريق طويل والموسيقى جميلة. كنت متشوقا أن أخترق مدينة توليدو وأكتشف بعدها عن سواحل البحيرة، والذي لم أنتبه إليه عندما كنت طالبا. هذه البحيرة التي قلما انتبهت أنه لولاها لأصبحت ولاية مشيغان ملاصقة لولاية نيويورك. وكنت متشوقا لرؤية نهر ديترويت الذي يربط بين بحيرة ايري وبحيرة سانت كلير. ولحسن الحظ، فقد تمكنت من الحجز في فندق على نهر ديترويت. وسأفاجئ زوجتي برؤيتها للمجتمع اليماني في مدينة ديربورن «قلب العروبة النابض». كما سأزور منطقة جروس بوينت – من ضواحي ديترويت التي تقع على بحيرة سانت كلير. هذه الضاحية التي كان يأتي منها كثير من الزملاء في الجامعة والزميلات الجميلات اللاتي عادة ما يضعن حاجزاً بينهم وبين من يتحدث إليهم.
ولأن الطريق يستغرق حوالي ست ساعات بين شيكاغو وديترويت، كان هناك وقت للتفكير والمقارنة بين تجربتي في الجامعة الأميركية في بيروت، وبين تجربتي التالية في جامعة مشيغان. واسترجعت كيف تمكنت من أن «أهرب» من أجواء حرم الجامعة الأميركية في بيروت وحيويته والصداقات العميقة التي كونتها إلى جامعة مشيغان التي تزيد مساحتها على منطقة رأس بيروت كلها. كانت «الهجرة» صعبة من بيروت إلى مدينة ليس فيها «النبتون»، الذي كان بمنزلة نادي ثقافي واجتماعي، وليس فيها عبدالعزيز الزامل ولا فاضل الدبوس. وتذكرت كيف كانت غربتي قاسية في الأسابيع الأولى التي أستطيع أن أقول إن حرب أكتوبر عام 1973 قضت عليها. فقد كشفت الحرب عن الوجود العربي الكبير في هذه الجامعة، واندمجت مع طلبة عرب من جميع الجنسيات في تكوين موقع لنا من خلال «منظمة الطلبة العرب» للتخفيف من غربتنا، وللعب دور سياسي وثقافي في حرم الجامعة.
القصيم في مشيغان
كان طريقنا عبر مدن صغيرة وكبيرة، وكان بودي أن أزور الحرم الجامعي لجامعة نوتردام، وهي جامعة كاثوليكية عريقة، ومنافسة لجامعة مشيغان في كرة القدم، ولعلها أهم جامعة في أميركا لدراسة فلسفة الدين في الولايات المتحدة. وكنت أتنقل بين محطات الراديو إلى أن استقررت على المحطة الأفضل، وكانت تبث من مدينة كلامازو في مشيغان. فتذكرت الأصدقاء عبدالله بوقماز وفواز القطان وعلي البدر الذين درسوا في جامعة غرب مشيغان. توقفنا قبل توليدو. تناولنا وجبة، وقرأت دليلاً سياحياً لهذه المدينة التي يطلق عليها «مدينة الزجاج». وعرفت لأول مرة أن فيها متحفا مهما وكبيرا للفنون. وهو أمر لم يكن بتلك الأهمية لي عندما ترددت على زيارتها سابقا وأنا طالب.
هذا ولم تكن مشيغان بالنسبة لي ولأصدقائي من الكويتيين ولاية أميركية فقط، وإنما كانت بحثا انثربولوجياً في أحوال المجتمع السعودي. فأغلب صداقاتنا كانت مع طلبة سعوديين من مختلف المناطق. لكن أغلبهم كانوا من القصيم والحجاز. فمن خلال «إقامتنا» في مشيغان، عرفنا التمايز باللهجات والطبخ والعادات بين مدن السعودية. وأصبحنا أنا وبعض أصدقائي الكويتيين «نرطن» لهجة أهل القصيم. فعندما يرن التلفون ويسأل المتكلم: أحمد بوه؟ نترجمها بسرعة: هل أحمد موجود؟
ولربما كنا محظوظين أن تعرفنا على سعوديين مميزين اصبحوا اصدقاء من معظم مناطق السعودية، لكن كان هناك حضور قوي في منطقتنا لأهل عنيزة. وكان أغلبهم قد تخرج في جامعة الرياض، وجاء إلى أميركا للدراسات العليا، وكانوا يتحدثون الإنكليزية بلهجة قصيمية. ولحسن الحظ أن المجموعة المقربة لنا كانوا من الطلبة الواعين الذين كانوا ضمن حلقة المرحوم عبدالرحمن البطحي، الذي أحببناه وقدرناه، وتأثرنا به دون أن نقابله آنذاك. لكنني على ما أذكر قابلته في زيارة لاحقة لمدينة عنيزة.
اكتشفت أن الطريق من توليدو إلى ديترويت من خلال الـ75 يكون حوالي ثلثه بمحاذاة شواطئ بحيرة إيري، وأن على هذه البحيرة تقع ثلاث مدن مهمة مثل بفلو في نيويورك، وكليفلند وتوليدو في أوهايو. وديترويت ليست بعيدة عن هذه البحيرة. وصلنا إلى مركز الريناسنس حيث حجزت، واستقبلني موظف من الجالية العربية اليمنية، وتذكرت أن في هذا المركز يقع مقر شركة جنرال موتورز. غرفتنا كانت مطلة على نهر ديترويت، ومقابلة لمدينة وندسور في كندا. وكنت قد زرت هذه المدينة في عام 1974 مع بعض الأصدقاء لحضور حفل لموسيقى الجاز آنذاك. كان العبور من الولايات المتحدة إلى كندا بهوية الجامعة أو بإجازة القيادة.
الإقامة في ديترويت
حاجتي للمشي هي أكثر من رياضة، فكثيرا ما يرفعني المشي نفسيا وروحيا. وأنا في مكان جميل يكون الأثر أوضح. هذا ما شعرت به عندما مشيت ساعة ونصف بمحاذاة نهر ديترويت وعلى يساري النهر ومدينة وندسور الكندية. وعندما أخذت راحة، كنت بقرب مجموعة من الشباب يخلطون العربية بالإنكليزية. وبعد أن تحدثنا، عرفت أنهم من أصول لبنانية وعراقية ويمنية. الأول: لبناني وكان أفضلهم في اللغة العربية ويعمل مهندسًا في خط تصنيع السيارات لشركة فورد. أما العراقي فمازال طالبًا في الهندسة الميكانيكية، وكان من مواليد رفحة بالسعودية، أي من الذين هربوا من بطش نظام صدام إلى السعودية، حيث ولد في معسكر اللاجئين في رفحة. اليماني كان مهندسا كهربائيا، وأكثرهم هدوءا كالعادة كان الطالب اليماني الذي يفهم لكن لا يتحدث العربية.
بعد العشاء مع زوجتي في مطعم سمك في مبنى الفندق مطلا على النهر، أذهب وحيدا لأكتشف المناطق التجارية الموازية لنهر ديترويت. وفي هارد روك كافيه، أجلس لأسمع الموسيقى، وصادف أن كان بقربي شاب بدا عليه أنه كان ثملا، وجاء ليتحدث معي. كان بلباس رسمي، عرفت بعدها أنه جاء إلى المكان بعد انتهاء دوامه في مؤسسة مالية قريبة. كان في منتصف الثلاثين، ومن تروي قرب ديترويت. أخبرني أنه من طبقة عاملة، وكان هو الوحيد من عائلته الذي تمكن من دخول الجامعة. لكنه باح لي بأمر قد لا يبوح به لأقرب الناس معرفة، أخبرني أنه يشعر بتأنيب الضمير كل يوم، لأنه قبل في جامعة مشيغان بسبب فوزه في كتابة مقال على مستوى الولاية، وأن هذا المقال لم يكتبه بنفسه، وإنما أستاذ اللغة الإنكليزية في مدرسته الثانوية. أخبرته أنه قد ارتكب خطأ، لكنني سألته هل قضيت أربع سنوات في الجامعة يكتب عنك آخرون أو يمتحن عنك آخرون؟ أخبرني بالطبع لا. المفاجأة كانت أن أحد أساتذة قسم الاقتصاد في جامعة مشيغان الذي درسه، قد درسني قبله بحوالي ثلاثين سنة. خطرت لي فكرة أن يدعى هذا الرجل المرهف الإحساس إلى الكويت ليلقي دروسا عن تأنيب الضمير. وتساءلت عن هؤلاء الذين نسمع أنهم زوروا شهاداتهم في الكويت، هل يؤنبهم ضميرهم؟ وإن كان لا يؤنبهم ضميرهم، فهل هناك من أمل لمجتمعاتنا؟
ضواحي الأغنياء في ديترويت
نتوجه أنا وزوجتي في صباح اليوم التالي إلى جروس بوينت الضاحية الراقية التي لا تبعد عن ديترويت أكثر من 20 ميلا. الطريق في البداية يكون بمحاذاة نهر ديترويت ثم ينقطع لتكون بحيرة سانت كلير على يميننا. نتوقف في الطريق عند كنيسة حولها أشجار تفاح، وتقع على البحيرة مباشرة. نلتقي مع معلمة، ونتحدث معها عن مشكلة التعليم وعن تأثير التمايز الاقتصادي بين المناطق على مستوى المدارس وعلى مستوى التعليم. أسألها عما إذا كان هناك تمايز كبير في رواتب المعلمين بين مثلا جروس بوينت والمناطق الفقيرة في ديترويت. تخبرني ليس بالكثير. وعندما أسألها: كيف يرضى المعلم أو المعلمة أن يدرس في منطقة خطرة وفقيرة في ديترويت؟ لتخبرني: «أعرف معلمين ومعلمات لن يرضوا أن يتركوا هذه المناطق الفقيرة والخطرة في ديترويت، حتى وإن عرض عليهم رواتب أعلى في مناطق أفضل. فالتعليم رسالة إنسانية يؤمن بها المعلم المخلص».
نستمر بالطريق إلى جروس بوينت، وكم نود ان يطول الطريق. البحيرة على يميننا والبيوت على يسارنا. نتجول في الشوارع الداخلية لأشاهد أجمل منازل شاهدتها في أميركا. وقد شاهدت منازلا في عشرات المدن الأميركية، لكني لم أشاهد بجمال تلك المنازل من الناحية المعمارية. الموضوع ليس كم تصرف في بناء المنزل، لكن الموضوع من أين يأتي الذوق لبناء المنزل؟ فلم أشاهد منزلا بأكثر من دورين، وهي صفة هامة للمحافظة على الجمال المعماري لمبنى المنزل. والجمال لا يقتصر على تصميم المبنى، بل على تصميم الحدائق وأنواع الأشجار المحيطة بالمنزل والقرب من البحيرة. وأصبحت أقدر كيف يقضي الأطفال هنا وقتهم، ومتى يتعلمون العزف على آلاتهم الموسيقية المفضلة؟ وأين يتعلمون التنس؟ واعترفت لزوجتي أنه الآن أتفهم لماذا نجد صعوبة بالتحدث إلى زميلاتنا في الجامعة اللاتي نشأن في هذه المناطق. فقد كنا من كوكب، وكن من كوكب آخر.
مطعم براون جغ في ساوث يوفيغرسيتي
صلاة الجمعة في «آن آربر»
عندما تركنا فندقنا في اليوم التالي، أرادت زوجتي أن تشغل تطبيق غوغل. فأخبرتها: لا يا عزيزتي. من ديترويت إلى آن آربر لن أحتاج إلى غوغل، وكان يوم جمعة، وكنت أريد أن أصلي الجمعة في المركز الإسلامي في آن آربر، الذي أعرف موقعه. لذا توجهنا إلى شمال آن آربر مباشرة قبل أن نتوجه إلى الفندق، وتمكنت من الوصول قبل إقامة الصلاة، وكنت قد اطلعت على منصة المسجد في الشبكة العنكبوتية، وتعرفت على اسم الإمام وتعليمه. وبدا أنه من سوريا وواسع الاطلاع والمعرفة، لكن عندما استمعت إلى الخطبة، شعرت أن الخطيب كان أميركيا، وكان متشددا في خطبته، وكأن الخطبة في أحد مساجد الرياض، وليس آن آربر. ولقد تضمنت الخطبة شرحاً للآيات الكريمة: «فإذا جاءت الصاخة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه». وبعد الصلاة، أعلن أن الخطيب السوري الأصلي يشكر المصلين على تمنياتهم له بالشفاء. إلا أنه بعد هذا الإعلان، تحدث أحد المصلين مخاطباً ما بقي من المصلين باللغة الإنكليزية: «يا جماعة أرى أن الخطيب كان مبالغاً في شرحه للآيات الكريمة، فعلينا أن نفسر الآيات الكريمة بصورة رمزية، فالمؤمن لا يمكن أن ينسى والديه، وإن كان ذلك يوم القيامة، فسبحانه وتعالى قصد توضيح شدة الموقف يوم القيامة، ولا يمكن أن يتنكر الولد لوالديه».
ارتفاع أسعار العقار
كانت زوجتي تنتظرني بالسيارة بعد خروجي من المسجد، فنقرر أن نتوجه إلى مطعم قبل أن نتوجه إلى فندقنا، قرب مركز برايروود التجاري، خاصة أن الوقت ما زال لا يسمح لنا بأن نستلم غرفتنا. فتوجهنا إلى مطعم براون على ساوث ينيفرستي، بعد أن أوقفت السيارة في موقف السيارات على ساوث فوريست. لم يتغير المطعم كثيرا، لكن بالطبع تغير مالكه من يوناني إلى يوناني آخر. صاحب المطعم، الذي كان في ذاكرتي، انتقل إلى رحمة الله، وتملكه بعد وفاته اليوناني، الذي كان يغسل الصحون في وقتنا. ولما عرف صاحب المطعم أني من الجيل القديم، اهتم بنا، وخيرنا بمكان الجلوس، فاخترنا أن نجلس على طاولة وضعت على الرصيف، الذي لم يكن مسموحاً في عصرنا. انضم إلينا صاحب المطعم، الذي حدثني عن التحولات التي تمر بها آن آربر في أسعار العقار، فعرفت أن زوجته تعمل في شركة عقارية.
هذا واستفسرت منه عن سبب ارتفاع أسعار العقار، فأرجع ذلك إلى أن شركة غوغل بنت لها مكاتب ضخمة على مين ستريت، وتبعتها شركات التكنولوجيا الحديثة الأخرى. لذلك ارتفع العقار على مين ستريت الى ثلاثة أضعاف خلال أربع سنوات. وأعطاني بطاقة زوجته، ونصحني أن أتصل بها أن كان لدي الرغبة، ثم اعتذر بلطف وتركني مع زوجتي. كان هذا في الأسبوع الاول من سبتمبر من 2016.
ضواحي الفقراء
لكن الصورة لا تكتمل دون جولة في الأحياء الفقيرة من ديترويت، حيث يزداد معدل الجريمة، ويتربى كثير من الأطفال عند أمهات تركهن أزواجهن. في مثل هذه البيوت تقل نسبة الحاصلين على شهادة الثانوية، والمحظوظون منهم يتميزون في الرياضة والموسيقى. وتظهر حالات نادرة من أبناء متفوقين تربوا في مثل هذه المناطق الفقيرة والخطرة مثل بن كارسون الذي أصبح طبيبا مميزا في جامعة جون هوبكنز وترشح في البداية جمهوريا منافسا لترامب ثم انضم لحملته. ويشغل كارسون الآن منصب وزير الإسكان. فقد تربى كارسون في هذه المناطق من ديترويت، وصنعته والدته القوية الشخصية التي داومت على تعليمه وبناء شخصيته. ومن هذه المناطق، توجهنا إلى ديربورن، وهي المنطقة من ديترويت، التي نشأ فيها توماس أديسون، وهي بمنزلة «قلب العروبة النابض» في ولاية مشيغان، حيث حصلت هيلاري على حوالي %70 من أصوات الناخبين، مقابل %30 للرئيس ترامب، وحيث تجد المطاعم اللبنانية والعراقية، لكن وجهتنا كانت مطعم سبأ اليماني، الذي على بساطته، يبقى نظيفا ورحبا، ويشعرك كأنك في بيتك.