الحوار الخالد .. بين العشر الأواخر من رمضان والعشر الأوائل من ذي الحجة

محمد تهامي
اللقاء عند بوابة الزمان
في ردهات الزمن الممتد بين الأرواح والذكريات، وفي مفترق مقدّس بين رمضان وذي الحجة، اجتمعت عظمتان لا تتكرران: العشر الأواخر من رمضان والعشر الأوائل من ذي الحجة. لم يكن لقاءً عاديًا؛ بل حوارًا سرمديًا، على بساطٍ من نور، في حضرة الزمن الأبدي، حيث تُوزن القلوب وتُختبر النيّات.
اقتربت رمضان بخطاها المخملية، تسبقها أنفاس قيام وليالٍ قد نزل فيها القرآن. وقالت العشر الأواخر بصوتٍ تحمله نسائم الفجر:
ــ “مرحبًا بك يا رفيقة النور، أيتها الشقيقة في الخير، يا أولى عشرات الرحمة في العام، أما أنا، فأختمه بالعتق والمغفرة”.
ردّت العشر الأوائل من ذي الحجة، يشع من كلماتها وهج التضحية والمقامات العالية:
ــ “وأنا يا أختاه، أفتحه بالأمل والعمل، بالحجّ والركوع، بالتهليل والتكبير، وفي يومي الأعظم… يُكمل السالكون مناسكهم ويغفر لهم خالقهم”.
المقامات في الميزان
قالت العشر الأواخر: “فيّ ليلة خير من ألف شهر، أترين؟ أنا درة الزمان، وسرّ الغفران”.
أجابت ذي الحجة: “وأنا، فيّ يوم عرفة، حيث تتنزل الرحمة على من وقف بجبل التوبة، وفي يوم النحر تكتمل الشعائر، ويتقرب المؤمنون بأعظم القربات. ألسنا سواءً؟”
قالت رمضان بحنان: “نعم، نحن توقيتان من النور، لكنّ البشر يستقبلونني بالبكاء والشوق، ويودعونني بالحزن والانكسار”.
ردّت ذي الحجة بابتسامة: “وأنا يأتون إليّ من كل فجٍّ عميق، تفيض عيونهم عند الكعبة، وتنبض قلوبهم بذكر الواحد الأحد”
العبرة للقادة: درس في البناء والاصطفاء
جلس الزمان يرقب، بينما استدار المشهد نحو عتبة القيادة، نحو من يحمِلون المسؤوليات، ويشيدون البنيان على عاتق الرؤية والعزيمة. قالت العشر الأواخر: “يا قادة اليوم، أما رأيتم كيف كان النبي يعتكف في لياليَّ؟ كيف يخلُص مع ربّه، ليتزود لحمل الرسالة؟ لولا خلوتي، لما خرجت الفكرة من قلب الغار إلى آفاق العالم!”.
فأجابت ذي الحجة: “ويا قادة الغد، أما رأيتم كيف حجَّ النبي حجة الوداع؟ كيف علّم وأرشد وبنى ميثاق الأمة على عرفات؟ إن فيّ يُعلن التوحيد، وتُجدد البيعة، وتُذكر وحدة الصف!”.
واستدركت رمضان: “أنا درسك في الإخلاص الخفي، في التربية الفردية، في الإصلاح الذاتي”
وأكملت ذي الحجة:“وأنا منهجك في القيادة العامة، في التضحية والبذل، في جمع الناس على
المعادلة الروحية: الفرد والمجتمع
قالت العشر الأواخر بهدوء: “أدرّب الإنسان على أن يُصلح ذاته، أن يُتقن الدعاء، أن يعرف الطريق إلى مولاه، وحده، بينه وبين نفسه”.
فأجابت ذي الحجة: “وأنا أعلّمه أن يبذل من أجل غيره، أن يُقدّم الهدي، أن يتّحد مع الملايين تحت شعار واحد، ولباس واحد، وطواف واحد”.
قالت العشر الأواخر: “رمزك: يا من أنزلت القرآن هدى للناس”.
وقالت ذي الحجة: “وشعاري: وأذّن في الناس بالحج”.
الرؤية والقيادة: تكامل لا تفاضل
قالت رمضان: “لياليَّ تُربي القيادات التي تختبئ في المساجد، تتنفس في السحر، وتبني نفسها في الظل”.
فأجابت ذي الحجة: “وأيامي تُخرج القيادات التي تهتف في العلن، وتخدم الأمة، وتحمل الراية فوق الجبال”.
قالت رمضان بإقرار: “أنت النداء، وأنا السرّ”.
فقالت ذي الحجة: “أنت التهيئة، وأنا الانطلاق”
وصية الزمان: لن تنهض أمة بلاكما
وقف الزمان، وقد رأى عظمة اللقاء، وقال: “أيها القادة، لا تجعلوا أيامكم موسمية. اجعلوا من رمضان صناعة لفكركم، ومن ذي الحجة امتدادًا لنهضتكم. لا تخطئوا فهم العشر، فهي ليست مواسم طقوس، بل مدارس حياة. فلتكن قيادتكم انعكاسًا لقيام الليل وصرخة عرفات. ولتكونوا في توازن الحكمة والتضحية، كما أنتما، أيتها العشرتان”.
الوداع المؤقت: ميثاق التجدد
قبل أن يغيب الفجر، قالت رمضان: “سأعود، فإن بقيت في القلوب سأجعلها سماءً لا تغيب عنها نجوم الطاعة”.
وردّت ذي الحجة: “وأنا، سأظل في الضمير الجمعي للأمة، أذكّرهم كل عام بأن التضحية لا تموت، وأن الحج ليس سفرًا، بل محطة عودة إلى الذات”.
تلاقت الأيدي النورانية، وغابت العشرتان في الضياء، لكن أثرهما ظلَّ في القلوب، ونداءهما في آذان القادة: قودوا أرواحكم قبل مشاريعكم… فالمواسم لا تُؤتي أُكلها إلا في حقول القلوب اليقظة.
وختامًا: ما بين الصفا والاعتكاف، وما بين ليلة القدر ويوم عرفة، تكمن أسرار لا يعرفها إلا من ذاق وارتقى. إنه حوار لم يشهده التاريخ، لكنه يُعاد كل عام…في قلوب الصادقين… وفي دروب القادة الحقيقيين.