أن تبرّ بعد الرحيل… درب لا ينقطع “من حجّ عن أمه… فذكّرنا جميعًا”

محمد تهامي
ليست كل القصص تُروى… بعضها يُستشعر، ويُحفظ في القلب كما تُحفظ آيات الرحمة، وبعضها لا يُنسى لأنه يوقظ فينا ما غفونا عنه طويلًا.
كان بإمكانه أن يحجّ لنفسه، أن يُسجّل اسمه في قوائم “الحجاج”، أن يعود محمّلًا بشهادات، وصور، وأدعية… لكنه فعل شيئًا آخر تمامًا.
حجّ عن أمه.
غابت بجسدها، لكنها لم تغب من قلبه. لم تكن معه في الصور، لكن كانت في كل لحظةٍ يسأل الله فيها الرحمة.
أبو بركات… حكاية رجل، وقصة أمة
اسمه أبو بركات السيد، لكنه أصبح — بصمته الهادئ — رمزًا لكل من لم ينسَ أمَّه حين ظنّ الناس أن البرّ ينتهي بالوداع الأخير. لم يُحدّثنا كثيرًا… لكننا قرأنا في ملامحه أثر الطواف عنها، في صوته نبرة الرجاء لها، وفي دعائه حديثًا لا يُسمع، لكن يُشعر. وكأنّه حملها على كتفيه من بيتهم إلى الكعبة، من ذكرياتها إلى مقام إبراهيم، ومن شوقها إلى عرفات… كان يمشي وهي فيه.
هل مات البرّ حين ماتت الأمهات؟
كم منّا توقف عن برّ والدته بعد أن أُغلقت المقابر عليها؟ كم منّا ظنّ أن الدعاء لا يُعوّض تقصير السنوات؟
كم منّا عاش الحسرة، ونسي أن الله فتح له بابًا لا يُغلق؟
قصة أبي بركات تردّنا إلى أنفسنا…
توقظ فينا سؤالًا ناعمًا كالدمعة:
“هل بقي من البرّ شيء يمكننا فعله؟” والجواب: نعم، بل كثير.
فالدعاء يصل، والصدقة تضيء، والحجّ عن الأمهات يغفر، ويُبعث على قبورهن نورًا في ظلمة، ورحمةً في وحشة، وبشارةً في دار القرار.
البرّ لا يُقاس بالعمر… بل بنيّة لا تنام
لم يذهب ليثبت شيئًا، ولم يفعل ليُرى. بل حمل قلبًا ما زال يقول: “يا أمي، لم أنسَ… ولن أنسى.” ذلك البرّ، حين يخرج من القلب، لا يُخطيء الطريق إلى السماء. ذلك البرّ، حين يكون بعد الموت، يُسجَّل في صحائف الأحياء.
من قصة أبي بركات… دعوة لنا جميعًا
• لمن قصّر يومًا: لا تيأس، فالله يسمع، والأمهات يفرحن بالدعاء كما كنّ يفرحن بالهدية.
• لمن ما زالت أمه حيّة: أمسِك بيدها، فإنها باب لا يُفتح مرتين.
• لمن اشتاق: ابكِ، وادعُ، وسِر على خطى من عرف أن البرّ لا قبر له.
حجّ عن أمه… ففتح لنا الطريق
أبو بركات، لم يكن يعلم أنه بفعله هذا، سيكون رسولًا خفيًّا لنا جميعًا، يقول دون أن يتكلم: “هكذا يكون البرّ… لا زمن له، ولا انقطاع.” لقد ذكّرتنا، أيها الأخ النبيل، بأننا لا نحتاج إلا لنية صادقة، وخطوة في الطريق، ودعوة في الأسحار، حتى نكتب لأنفسنا صفحة برّ جديدة، تُقر بها أعين أمهاتنا، أحياءً كنّ أو تحت الثرى.
إلى كل من بقي له شوق… وإلى كل من تأخّر عليه الفعل
ابدأ اليوم.
تصدق، ادعُ، زر عنهم، أنوِ عنهم حجًّا أو عمرة. فما أُغلق باب البرّ في وجه أحد… بل نحن من أدرنا ظهورنا، وظننا أن الحب لا يُبعث من بعد الموت.
ختامًا… إلى من حجّ فحجّت أمّه معه
اللهم اكتب لأبي بركات أجر البرّ مرتين، مرة لأنه لم ينسَ، ومرة لأنها رضيت. واجعل من قصته نورًا يُضيء قبور الأمهات، وقلوب الأبناء.
واجعلنا ممن يسمعون، فيتأثرون، فيعودون… إلى أمهاتهم، إلى البرّ، إلى دعاءٍ يُنير وجه الحياة والممات.
البرّ لا يموت…
بل نحن من نُحييه، حين نكتب له مقالًا، ونعيش له عمرًا، ونصمت له لحظةً… فنسمع فيه نداء أمٍّ ما زالت تنتظر.