يوم الإنسان العالمي… وكويت العطاء

محمد تهامي
لم يكن للإنسان في التاريخ يوم يحتفي به بقدر ما كُتب له في الخلود ذكرٌ وصدى. فالإنسان، ذلك الكائن الذي جُمع من ماء وطين، ونُفخ فيه من روح الله، ظلّ يبحث في متاهة الأزمنة عن معنى وجوده، وعن لحظة يلتفت فيها إلى نفسه، لا بصفته فردًا تائهًا في الزحام، بل بصفته “أمانة” و”رسالة” و”عهدًا”. وفي غمرة هذا البحث، جاء يوم الإنسان العالمي ليذكّره أنّ القضايا الكبرى تبدأ دائمًا من نقطة صغيرة في قلبه: من سؤال الرحمة، ومن قرار العطاء.
في هذا اليوم، حين يقف العالم أمام المرايا المتعددة التي تعكس وجوهًا شاحبة تارة، وضاحكة تارة، ووجوهًا مسحوقة بين حرب وجوع ونزوح، يحق لنا أن نتساءل: ما الإنسان؟ أهو لحظة عابرة في دفتر التاريخ؟ أم أنه بُعد أبدي، يتجاوز الحدود واللغات ليكون “خليفة” و”شاهدًا” و”حارسًا للرحمة”؟ قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”. هذه الكلمة الجامعة تختصر فلسفة الشريعة ومقاصدها، وتفتح أبواب العمل الخيري والإنساني على مصراعيها، لتجعل الإنسان ليس مشروعًا للشفقة بل مشروعًا للكرامة والتنمية.
هنا، يطلّ نموذج نادر في التاريخ الحديث: الكويت. بلد صغير المساحة، لكنه عظيم بالمعنى، اختار أن يُعرّف نفسه لا بالبترول فقط ولا بالاقتصاد، بل بالإنسان. لم يكن غريبًا أن تُلقَّب بـ”مركز العمل الإنساني”، فالعطاء صار جزءًا من هويتها السياسية، كما صار جزءًا من وجدان شعبها.ولم يكن ذلك غريبًا على بلدٍ أكرمه الله بقائدٍ صار عنوانًا للرحمة، حتى لُقِّب الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح ، رحمه الله، بـ قائد الإنسانية، ليظل اسمه شاهدًا على أن السياسة يمكن أن تتحول إلى رسالة، وأن القيادة الحقّة هي التي تجعل الإنسان أوّلًا.
حين نتأمل دور الكويت في العمل الإنساني، نجد أنها لم تقف عند حدود الإغاثة العاجلة، بل مدّت بصرها إلى ما وراء الأزمة. إنها فلسفة ترى أن الإنفاق في سبيل الله ليس مجرد كيس دقيق ولا لحاف شتاء، بل هو بناء مدرسة، حفر بئر، إنشاء مستشفى، تمكين أسرة، ورسم ابتسامة على وجه يتيم. إنها قراءة عميقة لمقاصد الشريعة التي جعلت حفظ النفس والنسل والعقل والكرامة الإنسانية غاية من غاياتها.
وقد علّمنا التاريخ أن الأمم التي أعطت، ولو كانت صغيرة، خلدت، أما الأمم التي كتمت، ولو كانت عظيمة، اندثرت. والكويت كتبت اسمها بحروف العطاء، حين مدت جسور الخير إلى إفريقيا وآسيا وأوروبا، فلم تفرّق بين مسلم وغير مسلم، بين قريب وبعيد. لقد جعلت من العمل الخيري “لغة مشتركة” تفهمها كل الحضارات. في يوم الإنسان العالمي، تتقاطع الأسئلة مع المواقف. كيف لنا أن نقرأ الكويت؟ أهي مجرد دولة سخية؟ أم أنها ظاهرة إنسانية أرادت أن تُثبت أن “رحمة الإسلام” ليست حبيسة الكتب، بل تنبض في الواقع؟ هنا يلتقي النص القرآني مع الممارسة الواقعية: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، لتقول الكويت بلسان فعلها: نحن جسر هذه الرحمة.
ولا عجب أن نجد التنمية جزءًا من معادلة عطائها. فالإغاثة دون تنمية كالماء الذي يروي الأرض ساعة ثم يجف، أما التنمية فهي المطر الذي يُنبت الزرع ويُبقيه. لذلك، اتجهت الجهود الكويتية إلى بناء قدرات المجتمعات، لا إلى تخدير آلامها مؤقتًا. وكأنها تُردد مع القائل: “لا شيء أقوى من فكرة حان وقتها”. وفكرة الكويت هي أن التنمية ليست ترفًا بل ضرورة إنسانية. لكن أعظم ما يميّز هذا النموذج أنّه جسر حضاري. ففي عالم تتنازعه السياسات، نجح العمل الإنساني أن يكون أرضًا محايدة، لغة مشتركة، قادرة على أن تجمع المختلفين على مائدة واحدة. ولعل هذا ما قصده ابن خلدون حين قال: “العدل أساس العمران”. لأن العدل في جوهره ليس قوانين صمّاء بل رحمة تُترجم في حماية الضعيف وتمكين المحروم.
تأمل أيها القارئ، كيف يتحول بلد صغير على الخليج إلى “ضمير عالمي”. إنها ليست معجزة اقتصادية، بل معجزة إنسانية، لأن مقوماتها لم تكن المال وحده، بل:
• الإيمان الذي يرى في العطاء زكاة للنعمة.
• الرحمة التي تدرك أنّ الآخر إنسان قبل أن يكون هوية.
• الرؤية التي تسعى إلى التنمية لا إلى التسكين.
• الشراكة التي تجعل العمل الخيري مشروعًا جماعيًا تتشارك فيه مؤسسات الدولة، الأفراد، والمجتمع المدني.
في هذا اليوم، يوم الإنسان العالمي، تبدو الكويت وكأنها تنادي العالم: تعالوا نلتقي على أرض جديدة، أرض لا تُقسمها السياسات، بل توحّدها الرحمة. تعالوا نضع الإنسان أولًا، قبل المصالح، قبل الحدود، قبل الحسابات الضيقة. قال غاندي: “الإنسان هو المنتج الأسمى لخياله”. لكن الحقيقة أن الإنسان هو المنتج الأسمى لرحمته. وما لم يكتشف العالم أن بقاءه مرهون بالرحمة، سيبقى يدور في حلقة العنف والجوع والفقر. أما حين يتبنى الرحمة كما تبنّتها الكويت، فإنه يكتب تاريخه من جديد، وهكذا، يصبح يوم الإنسان العالمي فرصة لا للاحتفال العاطفي، بل لإعادة كتابة “عقد إنساني جديد”، عقد يربط الشريعة بمقاصدها، والتنمية بأدواتها، والعطاء بروحه، والحضارات بجسورها. وفي قلب هذا العقد، تقف الكويت، لا كحالة منفردة، بل كإشارة إلى أن العالم ممكن أن يكون أفضل حين يجعل الإنسان مركزه، لا هامشه.