لا تخنقوا النعيم..!
«حين يشتدّ الخوف في اللغة، يتّسع الرجاء في الحقيقة؛ فالله أرحم بنا من قلوبنا حين ترتجف، وأحكم بنا من عقولنا حين تضيق».

✒️ راضي غربي العنزي-“كاتب سعودي”
لماذا نُصرّ على خنق النعيم في خطابنا، وكأن الرحمة هامش، وكأن الحب الإلهي استثناء؟ لماذا نرفع صوت التخويف حتى يعلو على همس الطمأنينة، ونكرّر صورة العذاب حتى يظنّ السامع أن الرحمة وعدٌ مؤجّل؟ الله سبحانه وتعالى أجلّ وأعظم وأقدس من أن يُختزل في صورة واحدة؛ هو الرحمن الرحيم قبل أن نذكر، وهو الحكيم قبل أن نخاف، وهو العدل الذي يفيض إحسانًا، لا لأننا نستحق، بل لأنه الله الواحد الأحد.
الموت في وعينا العام تحوّل إلى فزّاعة لغوية، مع أنه في ميزان الإيمان عبور، وفي ميزان الصالحين راحة. قال النبي ﷺ حين رأى أمًّا تبعد يدها عن طفلها خشية أن تؤذيه: «إن الله أرحم بعباده من هذه بولدها». ليست هذه استعارة ولا تجسيدًا، بل كشف عن معنى الرحمة الإلهية التي تليق بجلاله وتنزيهه؛ رحمة تُطمئن القلوب دون أن تُسقِط الهيبة، وتفتح باب الرجاء دون أن تُغري بالجرأة.
لماذا لا نُحدّث الناس عن نعيم القبر كما نُحدّثهم عن الحساب؟ عن طمأنينة المؤمن حين يُقال له: صدق عبدي، فيُفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وريحانها؟ لماذا لا نُعلّم القلوب أن العمل الصالح لا يترك صاحبه وحيدًا، بل يأنس به، وأن الفرح به أشد من فرح الغائب إذا عاد؟ إننا حين نُغلق هذا الباب لا نحمي الإيمان، بل نُثقله ونُرهقه.
قال الله تعالى: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي﴾. هذه آية لا تُقرأ للتعزية فقط، بل لتربية الرجاء؛ رجاء لا يناقض الخوف بل يهذّبه، وخوف لا يشلّ القلب بل يُصلحه.
وفي مسار الحكمة الإنسانية، أدرك الفلاسفة ما أدركه المؤمنون بالفطرة؛ قال ابن عطاء الله السكندري: من عرف الله لم يستوحش من الطريق إليه. وقال سينيكا الفيلسوف الروماني إن القلق لا يصنع الحكمة بل يضاعف الألم، وإن الطمأنينة وحدها تُبقي الإنسان متوازنًا في العاصفة. الفكرة واحدة مهما اختلف اللسان: القلب حين يطمئن يعمل أفضل، ويخطئ أقل، ويعود أسرع.
وفي قصة حديثة تختصر المعنى، شابٌ أثقلته أخبار الفقد حتى صار يرى الموت نهاية سوداء. تطوّع يومًا في دارٍ للمسنين، فالتقى عجوزًا فقدت أبناءها وبقي ذكر الله أنيسها. سألها عن الخوف، فابتسمت وقالت: الخوف حين يُحبس وحده يكبر، وحين يُجاوره الرجاء يصغر. خرج الشاب وقد تبدّل ميزانه؛ صار يدعو بدل أن يرتعد، ويعمل بدل أن يتجمّد. لم تتغيّر الحقائق، تغيّر النظر إليها.
نعم، هناك مسلم عاصٍ، مقصّر، لكنه ليس كافرًا ولا مطرودًا من رحمة الله. قال النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده ليغفرنّ الله يوم القيامة مغفرةً يتطاول لها إبليس أن تصيبه». هذا ليس ترخيصًا للمعصية، بل فتح باب لمن سقط ليقوم، وتذكير بأن الله لم يخلقنا ليُعذّبنا، بل لنعرفه ونعبده ونعود إليه إذا أخطأنا.
قال تعالى: ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا﴾. نحن من يختار الطريق، ومع ذلك تبقى الرحمة رفيقة السائرين، تحمل ضعفهم، وتستقبل عودتهم، وتُصلح خوفهم دون أن تُلغيه.
الخطاب الذي يُحبّب الله إلى القلوب لا يُضعف الإيمان بل يُحييه، والكلمة التي تُذكّر بعظمة الله مقرونة برحمته تصنع إنسانًا مستقيمًا لا مذعورًا، وواعيًا لا قاسيًا. فالله يُربّي بالحكمة، ويهذّب بالحب، ويقود القلوب إلى النور دون صراخ.
●على جدار الرحمة ……..
لسنا بحاجةٍ إلى طرقٍ أعلى، بل إلى قلوبٍ أقلَّ ارتعاشًا. لسنا أبناءَ الفزع، نحن أبناءُ المعنى حين يُقال بلطف، وأبناءُ الرجاء حين يُحسن الظنّ بالله. كلّما ضاقت اللغة اتّسعت الرحمة، وكلّما خُنق الخوف في الصدور تنفّس الإيمان كما لو أنّه خُلِق الآن. الله لا يُخيف ليُبعد، ولا يُحذّر ليُقنِط؛ الله يُربّي بالحب، ويهذّب بالحكمة، ويفتح الأبواب قبل أن نعتذر عن طرقها. نحن لا نمشي إلى النهاية، نحن نُستقبل. وما الموت إلا انتقال الضوء من ضجيج العالم إلى سكينة اللقاء. فاطمئنّ… على جدار الرحمة كُتِب اسمك قبل خطيئتك، وقبل خوفك، وقبل أن تتعلّم كيف ترتجف. هناك، حيث لا يُسأل القلب لماذا تعب، بل كيف صبر، وكيف أحبّ، وكيف عاد.
● ابتسم …فهناك من يحبك ويكتب لأجلك …وأبشر واستبشر……. لتضئ …!
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 479438
■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■




