أخبار المملكة

بادن باول في مصر: رسالة كشفية من ضفاف المتوسط إلى ضمير العالم

 

في ثلاثينات القرن الميلادي الماضي، لم تكن زيارة اللورد روبرت بادن باول، مؤسس الحركة الكشفية العالمية، إلى مصر مجرد محطة عابرة في رحلة بحرية، بل كانت حدثاً إنسانياً وتربوياً حمل دلالات عميقة، ورسالة عالمية ما زالت أصداؤها تتردد في وجدان الكشافة حتى اليوم.
حين اقتربت الباخرة “أوراما” من ميناء بورسعيد، بدت مختلفة عمّا عرفها أهل المدينة من قبل؛ لم تعد ناصعة البياض، بل اكتست باللون “الكاكي”، اللون الذي اختارته الكشافة رمزاً للبساطة والانضباط والعمل؛ كان ذلك التحول البصري تعبيراً صادقاً عن تقدير العالم للكشاف الأعظم، حتى قبل أن تطأ قدماه أرض الميناء.
رست السفينة في تمام الساعة الحادية عشرة، وصعد إليها مندوب صاحب السمو الملكي أمير الصعيد، الكشاف الأعظم، حاملاً تحية رسمية عكست مكانة الحركة الكشفية آنذاك، وقدم إلى الليدي بادن باول باقة من القرنفل، في لفتة ودٍّ تؤكد عمق الاحترام الذي حظي به ضيفا مصر.
وعلى أرض بورسعيد، كان المشهد أكثر تأثيراً ؛ آلاف من الكشافة والمرشدات، مصريين وأجانب، تجمعوا في نادي الألعاب، في لوحة إنسانية نادرة جمعت جنسيات متعددة تحت راية واحدة؛ وما إن دخل بادن باول حتى علت الهتافات، قبل أن تعيد نفخة واحدة في صفارته النظام والانضباط، في صورة تختصر جوهر التربية الكشفية.
وفي كلمته، التي قوبلت بعاصفة من التصفيق، خاطب بادن باول الكشافة بروح الأخ الأكبر والمعلم، معبّراً عن دهشته وسعادته بما رآه من تنظيم وعدد وانسجام؛ ونقل إليهم سلام إخوانهم الكشافة في إنجلترا، سلاماً مشبعاً بالمحبة والصداقة والإخاء، مؤكداً فخره بالتحية التي تلقاها من كشاف مصر الأعظم.
وتحدث عن رحلته المرتقبة إلى أستراليا، حيث سيلتقي كشافة من أقاصي الأرض، من نيوزيلندا إلى كندا، ومن اليابان إلى الولايات المتحدة، ليجتمعوا جميعاً كأسرة واحدة ؛ لكنه أكد أن ما يراه في بورسعيد لا يقل قيمة ولا معنى، حيث يقف المصري إلى جانب اليوناني، والإنجليزي بجوار الفرنسي، في مشهد يجسد وحدة القيم رغم اختلاف الجنسيات.
وفي ذروة خطابه، أطلق بادن باول رسالته الخالدة، مؤكداً أن ما يجمع الكشافة من مودة ومحبة لو وُجد بين الشعوب، لما قامت الحروب ولا ساد العداء، في دعوة صريحة إلى السلام العالمي، سبق بها عصره، واستشرف بها مستقبلاً أكثر إنسانية.
ولم يغفل البعد الروحي، حين ذكّر الجميع بأنهم، على اختلاف أديانهم وطرق عبادتهم، يعبدون إلهاً واحداً، في تأكيد على أن القيم المشتركة أوسع من حدود العقائد واللغات.
واختتم كلمته بإشادة رقيقة بالمرشدات، قبل أن يغادر المنصة وسط هتاف متواصل وتصفيق حاد، في لحظة تاريخية جسدت كيف يمكن للكلمة الصادقة أن تعبر الزمن، وأن تبقى الحركة الكشفية جسراً للتلاقي بين الشعوب.
إن زيارة بادن باول إلى مصر لم تكن حدثاً عابراً في سجل الحركة الكشفية، بل شهادة مبكرة على أن الكشافة لم تُبنَ على الخيام والصفارات فحسب، بل على قيم السلام، والأخوة، وخدمة الإنسانية… وهي قيم ما زالت حاضرة اليوم، وأكثر حاجة إلى أن تُستعاد في عالم يموج بالتحديات.

مبارك بن عوض الدوسري
@mawdd3

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى