أخبار الكويت

شهادة على قيادة إنسانية قبل الأزمان

محمد تهامي
في صمتٍ يكاد يهمس، جلست أمام المكتب الذي شهد عقودًا من الجهد والتفاني، وعيناي تتلمسان لوحة صغيرة خلف الكرسي: “كن كثير العمل، قليل الكلام، واصبر”. لم تكن مجرد كلمات مكتوبة، بل كانت شمسًا صغيرة تشرق على كل من يقترب، تلهمه، وتذكّره أن القيادة ليست مجرد منصب، بل رسالة إنسانية تفيض بحكمة وصبر. حاولت أن أستجمع الكلمات، لكنني شعرت أن ما أمامي أعظم من أي وصف: كان تاريخًا حيًا، مدرسة قيادة متكاملة، وفلسفة إنسانية تُروى للأجيال.

في التسعينات، حين كانت المؤسسات في مراحلها الأولى تتلمس خطواتها في خضم تحولات اجتماعية واقتصادية متسارعة، ظهر رجلٌ يضيء الطريق لكل من حوله. لم تكن قيادته مجرد إشراف إداري، بل فن ربط القيم بالممارسة، والأخلاق بالأنظمة، والإنسانية بالإنتاجية. تخيّل مؤسسة رائدة، تضم أكثر من 1700 موظف موزعين على ثلاثة أقطار، يديرهم مكتب إقليمي بدقة لا تعرف الفوضى، بل تعمل بالرؤية والقدوة. كل تقرير شهري يصل في وقته، كل اجتماع محسوب بعناية، وكل زيارة ميدانية تحمل رسالة واضحة: القيادة هنا حية، وليست مجرد شعارات على الورق. وفي تلك الفترة، لم تكن معايير الجودة والحوكمة والامتثال مجرد مفاهيم تنظيرية أو شعارات حديثة، بل كانت تمارس في أروقة هذه المؤسسة بأعلى درجات المهنية والاحترافية. فآليات الآيزو للجودة كانت حاضرة في ضبط العمليات، والحوكمة أرست قواعد الشفافية والعدالة، والامتثال كان التزامًا أصيلًا يحكم السلوك المؤسسي، وإدارة المخاطر نهجًا واعيًا يسبق الأحداث، لا يلحق بها. لقد سبقت تلك الممارسات أوانها، وجعلت المؤسسة نموذجًا يُحتذى به في زمن لم يكن العالم قد استوعب بعد قيمة التكامل بين هذه الركائز.

كانت هذه المؤسسة لا تُدار فقط، بل تُحيا. فالعمل لم يكن مجرد أوراق وإجراءات، بل حياة كاملة تتناغم مع قيم سامية. كل موظف يعرف مكانه، وكل نظام يعمل كعصب نابض يضمن انسياب المؤسسة بسلاسة وقوة. وكانت القيادة العليا، الممثلة في مجلس الإدارة، جزءًا من هذه المنظومة: حضورهم لم يكن شكليًا، بل كان مرشدًا ومسؤولًا، يقرّ القرارات الكبرى ويوازن بين التطلعات الاقتصادية والقيم الإنسانية، ويؤكد أن أي نجاح لن يتحقق دون احترام الإنسان قبل اللوائح، واعتبار كل فرد ركيزة في صرح متكامل. ومع كل هذه الدقة التنظيمية، كانت اللمسة الإنسانية حاضرة. الرجل الذي يشرف على هذه المؤسسة لم يلقِ باللوم على الظروف، ولم يدع التحديات تهزم إرادة الفريق، بل صاغ لوائح وأنظمة واضحة تضمن العدل والشفافية، مع الحرص على تنمية الإنسان قبل أي هدف اقتصادي. كانت زياراته الميدانية بين الأقطار فرصة لرؤية الواقع بعينيه، سماع أصوات الموظفين، مشاركة الأفكار، وزرع الثقة. لم يكن مجرد حضور شكلي، بل قيادة حية، ومعايشة لكل تفاصيل الحياة المؤسسية انه د. إسماعيل غريب.

كان مجلس الإدارة، بمجموعته المتنوعة من الخبرات، يمثل قلبًا نابضًا يوجه المؤسسة في أوقات التحدي، ويضمن الالتزام بالقيم العليا. الاجتماعات الدورية لم تكن مجرد تبادل معلومات، بل كانت حوارًا مسؤولًا لتنسيق الطاقات، وتحويل المعرفة إلى حكمة تطبيقية، وصناعة قرارات تنسجم مع روح المؤسسة. كل موظف يشعر بالمسؤولية، وكل قرار يعكس فلسفة القيادة: الإنسان أولاً، ثم الإنجاز، ثم الاستدامة. ومن المواقف التي لا تُنسى: حين مرض الرجل مرة، شعر الجميع بالقلق والانتظار، ليس فقط كمسؤول إداري، بل كإنسان أعطى قلوب الجميع الثقة والأمل. فرحة عودته سالماً كانت أعظم من أي إنجاز إداري، لتؤكد أن القيم الحقيقية تبدأ بالإنسانية، وأن القيادة بدون قلب وروح هي مجرد إدارة ميكانيكية. كان الفريق الذي شكله نموذجًا للانسجام والتكامل، وكل موظف يعرف مكانه، وكل قرار نابع من حوار عميق ومسؤول. الاجتماعات لم تكن مجرد روتين، بل مواءمة للطاقات والنيات، وصناعة قرار يعكس قيم المؤسسة وروحها.

ومع هذا كله، لم تقتصر القيادة على الإدارة الداخلية، بل امتدت للعلاقات الإقليمية والدولية. لقد جمع الرجل بين الأقطار على معايير موحّدة، وبنى شبكة عمل متينة رغم تباعد المسافات وتباين الثقافات، في زمن كان الفاكس وسيلة التخاطب، والبريد يسافر عبر السيارات، والرحلات تمتد لمئات الأميال. كل نجاح إداري كان محفوفًا بالإنسانية، كل قرار مدروس بمراعاة القيم الأخلاقية، وكل تحدٍ فرصة لصقل القيادة وتعلم الصبر. لم يكن الهدف مجرد الإنجاز، بل صناعة تاريخ حي يُذكر ويستلهم منه الأجيال.ولعل أعمق ما يعبر عن هذه التجربة قول ابن خلدون: “الملك قائم بالإنسان، فإذا فسد الإنسان فسد الملك كله”. وهو تذكير خالد أن القيادة تبدأ من جوهر الإنسان قبل أن تكون نظامًا أو مؤسسة. ويوازيه ما قاله بيتر دركر: “الثقافة تأكل الاستراتيجية على الإفطار”. فالثقافة الحية، كما عاشتها هذه المؤسسة، كانت الحارس الحقيقي للاستراتيجية، والضامن لاستدامة الإنجاز.

إن الحديث عن هذه القيادة لا يكتمل دون ذكر كيف كان مجلس الإدارة قيادة المؤسسة العليا يراقب ويشرف ويوازن، مع التقدير الكامل لأدوار كل فرد في المؤسسة. فقد كانوا حكامًا على التوازن بين القيم والأداء، بين الإنسان والهدف، بين الرؤية الطويلة والأعمال اليومية، ليظل النجاح عادة وليس صدفة. لقد جسدوا جميعًا معًا مفهوم القيادة الإنسانية التي تسبق كل زمان، والتي تظل نبراسًا لكل مؤسسة ترغب في الجمع بين الإبداع والقيم والأثر الاجتماعي. وعندما نعود إلى روح القيادة نفسها، نجد أنها لم تكن مجرد تطبيق للأنظمة، بل فنًّا حقيقيًا، وعبرة لكل من يطمح للقيادة. كل خطوة، كل قرار، كل توجيه، كان ينبع من قلب نابض بالإيمان بالقيم، ومن عقل واعٍ بدقة التخطيط، ومن روح تقدّر الإنسان قبل أي شيء آخر. وفي كل لقاء، في كل تقرير، وفي كل زيارة ميدانية، كانت تلك الإنسانية واضحة، والقدوة حاضرة، والقيم تُترجم إلى أفعال يومية.

وفي النهاية، يكفي أن نختصر كل هذه التجربة في شعار واحد عاشه الرجل وحياه: “كن كثير العمل، قليل الكلام، واصبر”. لم يكن مجرد كلمات على لوحة خلف المكتب، بل حياة عاشها، قيادة مارسها، ومدرسة غرسها في من حوله. هنا يكتمل المشهد: قيادة سبقت زمنها، إنسانية خلدها التاريخ، وقدوة تلهم كل من يطمح للقيادة بفكر راشد وقلب نقي، ودرس عالمي لكل مؤسسة تريد أن تترك أثرًا خالدًا. إن قراءة هذا التاريخ تجعلنا نفهم أن القيادة ليست مجرد منصب، بل فن متكامل يحتاج إلى قلب وروح قبل أن يحتاج إلى أوراق ولوائح، وأن مجلس الإدارة، حين يحقق التكامل بين الرقابة العليا والقيادة التنفيذية، يصنع معجزة إنسانية تتخطى الزمن. وهذا هو السر الحقيقي للقيادة المؤسسية الإنسانية، التي تجمع بين الإنجاز، والقيم، والقدوة، والإبداع، والوفاء بالرسالة.

وهنا، لا يسع القلب إلا أن يناجي مولاه : اللهم يا واهب الحكمة لمن تشاء، ويا جامع القلوب على البر والصفاء، اجعل هذه التجارب قبسًا ينير دروب القادة من بعدنا، وازرع فيهم روح الصدق والإخلاص قبل أن تشرق في قلوبهم همّة الإنجاز. اللهم بارك في كل يد امتدت لتبني، وفي كل فكر حمل همّ الإنسان، واجعل القادة الذين يرعون الأمانة هداةً للخير، ورحمات تمشي على الأرض. اللهم كما أحييت فيهم معنى “كن كثير العمل، قليل الكلام، واصبر”، فأحيِ فينا وفي أجيالنا من بعدنا نور القدوة، وصفاء النية، وعزيمة لا تنكسر أمام التحديات. واجعل التاريخ شاهدًا أن القيادة الحقة لم تكن يومًا سلطانًا أو جاهًا، بل كانت قلبًا يخافك، وعقلًا يخطط لعمارة الأرض، وروحًا تسعى أن تترك أثرًا يبقى بقاء القيم النبيلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى