المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

الافتراضي

إبراهيم الفيلكاوي: صنعت 500 سفينة من ذهب الأشجار

الحنين إلى الأيام الخوالي، يبقى الجامع المشترك بين الرعيل الأول ومن عاش في الكويت، في عصر ما قبل النفط أو في مرحلة الاستقلال وما بعدها، في هذا اللقاء رحلة مع الذكريات ومع الماضي، نغوص في ثناياه، فنبحث وننقب عنه، مع الذين عايشوه، تسجل لهم صفحات من عبق التاريخ، ففيه رسالة وعبرة للأجيال.
في حديثنا مع إبراهيم عبدالقادر محمد أحمد الفيلكاوي قال: أنا من جزيرة الآثار القديمة منذ عصر الأسكندر الكبير من جزيرة فيلكا إيكاروس، الغنية بالبساتين والزراعة، وأهلها عملوا بصيد السمك، جزيرة الآثار والمباني القديمة، ولدت فيها، وبعد 3 أيام من ولادتي نقلوا أهلي سكنهم إلى قرية الفحيحيل الساحلية الغنية بعدة آبار من المياه العذبة والنخيل المثمر، وكانت أراضيها تنتج القمح والشعير والبطيخ، والأغنام والماعز، وسميت بهذا الاسم بعد أن جلب بعض الكويتيين ذكر النخل الذي يسمى «الفحل».
وقال: درست في مدرسة عثمان بن عفان، كان مديرها م. محمد العتيقي، والمدرس كان يدرس كل المواد، منها: البدنية والفنية والموسيقية، منهم: أ. فايز الحربي (فلسطيني)، وهاشم البورنو (فلسطيني) وصفوت المصري، وهم الذين شجعوني على هواية القلافة، وغيري من الزملاء اتجهوا نحو الرسم والنحت والتصوير، والمعلم مهمته الأساسية التثقيف. ومن لا يملك شيئا لا يعطي شيئا، هؤلاء استطاعوا إنشاء جيل متميز، وعرفنا فضل المعلم الذي يبني وينشئ أنفسا وعقولا، هم مهندسو النفوس، فالمعلم نهض بنا وعلّمنا كيف نفكر؟، وكيف نتعامل؟ والأبوة كانت تأديب وإصلاح، فالأب هو السبب في إيجاد الشيء وإصلاحه، والأم كانت السيدة المسؤولة تفكر وتحلل وتركب ثم تختار الأصلح من الغذاء لتغذي أفراد الأسرة، فهي التي رستنا على شاطئ البحر، وهي التي أخذت بيدنا لمعرفة أحسن السبل، هي النخوة والحماسة والمروءة، وهي المضحية والعطاء والشعاع المشرق، هؤلاء المربون لهم أحسن القول: «من يعاشر الأشراف يكتسب شرفاً، ويحولون القاحِل الماحِل من أراضي الحياة رياضاً مخصبة

قلافة السفن
شرح إبراهيم الفيلكاوي قصته مع القلافة، حيث قال: بدأت منذ صغري، كنا نمارسها في المدارس، بالاضافة الى الرسم والنحت والحرف اليدوية الأخرى، والمدرس له دور كبير في التشجيع والإرشاد، وأنا طورت هوايتي «القلافة» من خلال الممارسة والاحتكاك بالنواخذة والقلاليف، حتى وصلت إلى مرحلة «العشق» أي عشقت صناعة السفن الصغيرة النموذجية، تعلمت وله الفضل بعد الله سبحانه وتعالى على يد شيخ القلاليف «علي عبدالرسول القلاف» عملت معه في فصل الصيف «الإجازة المدرسية» أقوم بمساعدته وأعمل له «القدو والشاي» بالعشيرج داخل جون الكويت جهة الجنوب، ومن ثم انتقلنا إلى نقعة الشملان، وكان معي دفتر صغير أسجل كل ما أشاهده من الخشب وأنواعه والقطع المستخدمة والأدوات المتوافرة وأسماء السفن، وعندما أرجع إلى البيت أقوم بتطبيق مشاهداتي من خلال عمل بيدي.
وكان القلاف علي عبدالرسول دائماً يحثني على الحضور والاستمرار ويقول: ستكون قلافاً إن شاء الله، وعرفت بعد ذلك أن كلمة «قلاف» تعني صناعة السفن، وتعني قلف الشجرة أي «نحىَّ عنها لحاءها»، والقلف كلمة تعني القشر ، وقلافة السفن هم الذين يسوون الخشب وينجرونه، وهم مجموعة يشتركون في صناعة السفن، وللقلاليف رئيس يسمى «الأستاذ» وهو مهندس بناء السفينة ومصممها، وبعد 55 سنة أصبحت قلافاً وأول سفينة شاركت في صنعها تسمى «بدري» تحت إشراف أهل الخبرة أهديناها للمغفور له الشيخ صباح السالم الصباح عام 1968م.
أتذكر عندما أمسك بيدي وقال رحمه الله: يا ولدي استمر وقام بتأسيس منجرة كاملة بأدواتها وموادها خاصة لي في منزلي في الفحيحيل فريج الدبوس طيب الله ثراه تشجعت أكثر وأكثر، وقال لي: اشتر ما تريد لمنجرتك وأوصي المسؤولين بالاهتمام وتقديم المساعدة لي في كل الأوقات والأشياء.

مواد وأدوات الصناعة
وقال أبو محمد: صناع السفن في الكويت تحدوا كل الظروف لصناعة السفن لعدم وجود الأخشاب أو المواد الأخرى كالحديد والقطن للأشرعة، ولكن استوردوا من الهند من الساحل الغربي لها، لأنها الغنية بالأخشاب المتنوعة، ومدينة كاليكوت الهندية مشهورة للتصدير، فخشب الساج من المواد الرئيسية لصناعة السفن كانت كبيرة أو صغيرة للهواة، والساج هو ذهب الأخشاب لقدرته على مقاومة الماء وطول شجرة الساج قد يصل إلى 40 متراً، وخشب المنتيي أيضاً يستخدم في بناء السفن، وخشب الجنقلي أو الجنكلي صلب ويوجد أيضاً في بورما ويستخدم لقاعدة السفينة، وخشب الفنص أيضاً صلب وقوي يتحمل الحرارة والجفاف، وخشب الفيني يسمى بالهند «بالي» وخشب الفن يسمى «بونا» لين ولا ينكسر، ولكن يبقى الساج هو الأفضل ومنه لصناعة الأبواب والتوانكي الخاصة للماء.
أضاف: أما المواد الأخرى العضوية المستخدمة في صناعة السفن: الصل (زيت يستخرج من سمك السردين أو من كبد سمك القرش) والصل للسفن الكبيرة، والدامر مادة صمغية من أشجار الهند لطلاء أسفل السفينة المعرض للماء، والحل زيت يستخرج من جوز الهند لسد الفتحات بين الألواح، والشونة من الجير وشحوم الأغنام لطلاء أسفل السفينة، والحومار مادة معدنية لوضع علامات على الخشب، وقماش الشراع وبعض الحبال.
وقال: وأما الأدوات فهي: فأس من الحديد (الجدوم) والمدم (المثقب)، المطرقة لدق المسامير، والقوبار لتسهيل حفر تجويفات في الألواح، والرندة للمسح وهناك أدوات أخرى لكنها تستخدم للسفن الكبيرة.

500 بوم
قال الفيلكاوي: صنعت أكثر من 500 بوم بأطوال متعددة من 3 أمتار وأقل، يعتبر الواحد منه بوماً نموذجياً للذكرى والزينة، أهم هذه السفن التي قمت بصناعتها: الشوعي من سفن الغوص وهو من أجمل السفن التي كانت تستعمل في الكويت لصيد اللؤلؤ، والجالبوت من سفن الغوص والسفر كذلك، وأصعب بوم في الصناعة «البغلة» لنقل البضائع المختلفة بين الكويت والهند وشرق أفريقيا، وكذلك البتيل من السفن الجميلة بوم مزخرف ومنقش، ولكل دولة زخرفتها وشكل معين، وأي اختلاف في النقشة تعتبر السفينة لدولة ثانية فصناعتها تحتاج إلى الدقة، وكذلك بوم الغنجة والغنجية في مقدمته بعض النقوش كانت تستعمل في الكويت للأسفار البعيدة، وهناك فروقات في الصناعة بين هذه السفن النموذجية، وأفضل مكان لصناعة هذه السفن في الوقت الحاضر في مدينة صور العمانية.

زيارة السلطنة
أضاف: أنا ذهبت إلى سلطنة عمان عام 1972 وحضرت وشاهدت ودونت وسجلت تلك المشاهدات وكررت الزيارة ومكثت أكثر من 6 أشهر، وتعلمت منهم الكثير، واشتهروا بصناعة البغلة الدقيقة في الصنع، وشاهدت صناعة السفينة السلطانية المشهورة (البغلة) طول بيصها (قاعدتها) 60 متراً وبعد البناء والتكملة أصبح طول البغلة حوالي 130 متراً مع الزوائد، وأنا اشتركت معهم في صناعة الهيكل الخارجي فقط.

التجوال في مرافئ الخليج
وقال:  ومن زياراتي لمعرفة الصناعة زرت البحرين وتعلمت الكثير، وحصلت على خبرة واسعة، وآخر محطة في سفراتي التعليمية منطقة «لنجة» الإيرانية بالقرب من بندر عباس، وصناع السفن هناك يستعملون الخشب الأحمر لأن سفنهم لنقل الملح والبصل والمواد الغذائية الخفيفة وهذا الخشب يسمى «الفيني» وشاهدتهم أخيراً يصنعون قاعدة السفن (البيص) من الكنكريت (كنكري صلبوخ وحصا) والتسمية انكليزية Concrete، وذهبت الى مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، وحضرت وشاهدت صناعة السفن التي تشبه السفن اللبنانية والمصرية في شكلها الخارجي، وتسمى هذه السفينة (فلوكة) وهذه السفن تختلف عن سفن أهل «الجبيل»، مكثت عندهم حوالي الشهر، كل من يعشق العمل عليه ان يبحث عن معشوقه، ويبحث عن الوقت خاصة في جولاته ورحلاته، وللأسف لم أذهب الى منطقة «العشار» العراقية التابعة لمحافظة البصرة، وقلاليف العشار بعضهم عمل في الكويت، وبعضهم في سلطنة عمان، وذهبت الى مصنع السفن في دولة قطر، أضفت هذه الخبرات الى الخبرات التي حصلت عليها من خالي المجدمي والنوخذة محمد السبتي الذي عمل في بوم عبدالله القطامي، وتعلمت من عمي أحمد علي من الإمارات العربية المتحدة، هو ابن عم والدي، وتعلمت من أخي وخالي هؤلاء اساتذتي دائماً يقولون: انت فيلكاوي لا تترك البحر والسفن، وبالمنافسة والتحدي أصبحت قلافاً.

أغلى بوم للبنك الوطني
بعد هذه السنوات الطويلة عرفت ان الانسان القديم دأب على الحصول على لقمة عيشه فأخذ يتنقل من مكان لآخر لتحصيل رزقه، فاجتاز الأنهار والبحار والبراري، في البداية امتطى الجذع فعام به، وتوصل فيما بعد الى معرفة السفن، فالكويتي ركب البحر وعرف مسالكه بواسطة المجاديف والمراسي والنقع، فأصبح على دراية، وصل المحيط الهندي والى شرق أفريقيا، والكويتيون لسفنهم خصائص فريدة تتلاءم مع الملاحة وعرفوا قواعد السفر والغوص حتى بنوا السفن على امتداد الشاطئ الداخلي لبلدهم، فاشتهروا بصناعتها وأتقنوها وصاروا يزودون بها غيرهم، ونحن أبناء هؤلاء أخذنا منهم القلافة، وورثنا صناعة السفن، فهذه الحرفة القديمة نجددها ونحافظ عليها، حرفة القلافة لم تنشأ في المدارس، وهي مقصرة في مناهجها، رافقنا الآباء فأخذنا منهم، ونحن صبية عملنا بالمسامير والمطارق والمناشير، والآن سفننا في مداخل وزارات الدولة قدمناها كهدايا، وتشاهدون صناعة السفن النموذجية في الدواوين، وأنا قدمت أغلى بوم للبنك الوطني فرع لندن في منهاتن عام 1975، وما زال موجوداً، وللأسف هناك من اشترى مني ووضعه في ديوانه ولم يسدد ما عليه من قيمة البوم، وأطلب من الإعلام الكويتي ان يهتم بنا، نحن أهل البلد نحافظ على تراثنا «واللي ما له أول ما له تالي».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى