المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

مقالات

الأم الفلسطينية.. أيقونة الصمود في دروب النزوح والدمار ” عيد الام الغروية “

محمد تهامي
على طريق مُغبَّر، تتقدم مركبة محملة بما تبقى من حياة، تعلوها الفُرُش المهترئة وأكياس الملابس المتناثرة، فيما تتمسك امرأتان بجانبيها كأنهما تتشبثان بما تبقى من وطن. فوق الركام، تسير القوافل إلى وجهة مجهولة، والعيون تغرق في الفراغ، تحاول أن تستوعب فصول النكبة التي لا تنتهي. الصورة ليست مشهدًا عابرًا، بل شهادة حيَّة على تاريخٍ ممتد من الألم والصمود، تحكي عن أمهاتٍ لم يعد لهن متسعٌ للبكاء، إذ عليهن أن يحملن على أكتافهن ثِقل الأوطان وعبء النزوح إلى حيث لا مأوى ولا يقين.

منذ نكبة 1948، والأم الفلسطينية تعيد رسم ذات المشهد، ولكن بصور أكثر إيلامًا وأشدّ قسوة. في ذلك العام، سارت الجدات حفاة، يحملن الأطفال بين أذرعهن، يبحثن عن ملجأ، يطرُقن أبواب القرى المجاورة، وهنَّ يروين لأطفالهن عن البيوت التي تركوها خلفهن، عن النوافذ التي لم تُغلق بعد، عن الأزقة التي كانت تعجّ بالحياة حتى آخر لحظة. واليوم، بعد أكثر من سبعين عامًا، يتكرر المشهد ولكن بوسائل أكثر حداثة: سيارات مكتظة، قوافل تفرُّ من جحيم القصف، أمهات يجمعن ما استطعن من متاع، وأطفال ينظرون عبر النوافذ المحطمة، يتساءلون عن وجهة هذا الرحيل الذي لا نهاية له.

تُشير التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليون فلسطيني أُجبروا على النزوح داخل قطاع غزة خلال الأسابيع الأخيرة فقط، فيما تتحدث المنظمات الإنسانية عن كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث تحوّلت المدارس إلى ملاجئ مؤقتة تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة. في ظل هذا الواقع، تجد الأم الفلسطينية نفسها في معركة أخرى لا تقل ضراوة عن القصف، معركة الحفاظ على حياة أطفالها وسط انهيار كل ما حولها. إنها التي تبحث عن الطعام حين تنعدم الخيارات، والتي تحمي صغارها بجسدها حين تنهمر الصواريخ، والتي تسرد لهم الحكايات القديمة حين تتلاشى الكهرباء ويصبح الظلام هو اللغة الوحيدة في المكان.

في العالم، يُحتفل بعيد الأم بالورود والهدايا، أما في غزة، فالأمهات يحتفلن بنجاة أطفالهن ليوم آخر. هناك، لا وقت للرفاهية، ولا مكان للأمنيات البسيطة، بل هناك أم تُولد كل يوم من جديد، تُعيد اكتشاف قوة لم تعهدها في نفسها، وتواجه الموت دون أن تفقد ملامح الحياة في عينيها. تُخبر صغارها أن الغد سيكون أفضل، رغم أنها لا تملك أي ضمانة لهذا الوعد، لكنها تؤمن أن كلماتها هي الحصن الأخير الذي يحميهم من الانكسار.

إدوارد سعيد، في حديثه عن الرواية الفلسطينية، قال ذات مرة: “القضية ليست مجرد معاناة، بل صراعٌ على السردية.” في هذا الصراع، تكون الأم الفلسطينية الراوي الأهم، فهي التي تحفظ الحكاية وتمنعها من التلاشي، هي التي تُلقِّن أبناءها أسماء المدن المدمَّرة، وتُذكّرهم بأن الوطن ليس مجرد بيوتٍ تُهدَم، بل ذاكرة تُورَّث. لا يقتصر دورها على منح الحياة، بل على تأمين استمرارها وسط الظلام والدمار.

لكن معاناة الأم الفلسطينية ليست معزولة عن العالم. على مرّ التاريخ، شهدت شعوب أخرى تجارب مشابهة، حيث كانت الأمهات هنَّ الحصن الأخير في وجه الإبادة والتهجير. في البوسنة، خلال حرب التسعينيات، كانت النساء يُهرّبن الأطفال عبر الجبال، يخفينهم تحت المعاطف في الليالي الباردة، يخاطرن بكل شيء ليضمنَّ استمرار الحياة. وفي سوريا، حيث دُمِّرت مدن بأكملها، شاهد العالم أمهاتٍ ينتظرن ساعاتٍ أمام الأفران للحصول على رغيف خبز لصغارهن، أو يحملن أطفالهن عبر البحر في قوارب الموت، أملاً في الوصول إلى برٍّ آمن.

لكن ما يجعل الأم الفلسطينية مختلفة هو أنها تعيش في صراع مستمر، دون فاصل زمني يتيح لها التقاط أنفاسها. فهي لم تعرف يومًا ما معنى انتهاء الحرب، لم تشهد لحظةً يزول فيها الاحتلال، ولم تسمع يومًا خبرًا يُبشّر بنهاية المعاناة. ورغم ذلك، لم تفقد قدرتها على المقاومة، ولم تستسلم لليأس، بل ورّثت أبناءها الأمل كما ورّثتهم الألم.

في قطاع غزة، حين ينام العالم في راحة، تبقى الأمهات ساهرات، يراقبن السماء المظلمة، يُنصتن لأصوات الطائرات التي لا تُخطئ طريقها إلى البيوت، يُعدِدْنَ الأسماء في قلوبهن، يتأكدن أن الجميع تحت الغطاء، حتى وإن لم يكن هناك سقف يقيهم البرد. هذا ليس مجرد مشهد درامي، بل هو واقع يتكرر كل ليلة، حيث تظل الأم الفلسطينية على العهد، لا تفكر إلا في حماية أطفالها، لا ترى نفسها إلا من خلالهم، ولا تطلب شيئًا سوى أن ينجوا، حتى لو لم تستطع هي النجاة.

في عالمٍ يزداد قسوة، قد يعتقد البعض أن القصص تتشابه، وأن الألم واحد. لكن في فلسطين، الألم ليس مجرد قصة، بل هو تاريخٌ يُكتب بدمع الأمهات، هو لغةٌ لا تحتاج إلى ترجمة، وهو عيدٌ لا يُحتفل به إلا بالصمت، حيث البطولات لا تحتاج إلى تصفيق، وحيث الأمومة تُختبر في أقسى صورها، عندما تكون الحياة خيارًا لا يُمنح، بل يُنتزع انتزاعًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى