المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

مقالات

بوادر رحيل

عصفت بهِ أفكاره وأصبح في دوامة يخاطبُ بها نفسه: هل من المعقول أنني لم أتعلم شيئاً من سابق حياتي إلى الآن، هل يعقل أن أكون نفس الشخص بنفس الأخطاء وأحسَ بإحباطٍ كبير؛ غرِقَ في مستنقع أفكاره وراح يقرر قرارات مصيرية بناء على المواقف والأحداث، أحس بالجنون داهمته مئة فكرة في اللحظة الواحدة.. هل أنا مجنون؟!

راح يبحث ويفتش بين أروقة المكتبات وأرفف الكتب عن الحالة التي يشعر بها ولكنه لايجد جواب وحالته تزداد سوءاً؛ هزُلَ جسمه أُصيبَ بالسكري حتى طبيبهُ يقول له: يبدو أن البنكرياس يعمل، لكن ليس لفترة أطول وستأتي بعدها لتعيش بين إبر الانسولين. وابتسم ابتسامة باردة وودعه على أمل لقاءٍ قريب…

كان وحيداً؛ حقاً كبطريق يعيش في الرياض. إن لم تفهم التشبيه عزيزي القارئ سأعيدُ صياغته: كحيوان قندس يعيش في المدينة.. يبدو أنك لم تُركز بعد، لاداعي للتركيز سأقولها مباشرة أن البطريق والقندس لايعيشون في المدن. إذا لم تفهم عزيزي القارئ بعد يستحسن أن تراجع طبيب السكري؛ حسناً لنكمل…

كان ذلك القندس أو البطريق أو أياً يكن يشعر بالوحدة، ومصاب بالسكري ويوشك على الهلاك حتى جاءته تلك الفكرة، بأن يذهب إلى ذلك الطبيب اللعين ليقتله ويصب جام غضبه عليه، وقام من مقعده وذهب للمشفى ولكنه وجد تلك الجميلة في الاستقبال التي بادرته بعذب صوتها وتراتيل كلماتها التي أنطلقت كإبرة إنسولين لتعيد التوازن إلى جسمه ورتلت: صباح جميل، كيف أستطيع أن أساعدك.. كانت ابتسامتها عريضة مليئة بحنان الأمهات، نسيَّ فيها الوحدة وبدأ ينظر إليها وعينيه تحكي لها عن ماجرى في حياته، أخذت يدها تلمس يده وتشدُ عليها وأخذت تعزز من نفسه واحتضنته بقوه أحس خلالها بأنه شخص جديد بُعث من جديد، أحس بأنه رسولٌ مرسلٌ من عشتار ليبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة..

مالبث حتى استيقظَ وحيداً يتخيل ذلك وما لبث قليلاً حتى بدأ يشعر بالوحدة مجدداً، كان إحساسه أنه أشبه ما يكون بالمزهرية التي أمام غرفته لا أحد يعلم عنها ولا أحد ينظر إليها ولا أحد ينظفها.. جُلَّ مايبحث عنه كان شيئاً يغنيه عن الوحدة، ولكن ابتسامة تلك الجميلة كانت إشارةً له في البحث عن نفسه عمّن يعوض هذه الوحدة الشنيعة وعلم أنه لايوجد رحيل بدون بوادر وعلم أن تلك البوادر هي تجربته الأخيرة مع الوحدة وتلك الجميلة.

قرر أن يبدأ رحلته ويكسر انكساره ويتجاوز هذه الوحدة ويمضي قدماً نحو تلك الجميلة.. نحو الحياة؛ وقبل الرحيل التفت للوحدة مودعاً وأقتبسَ من دستويڤسكي قائلاً: “أتمنى لو كان بإمكاني إتلافُ كل شيءٍ حدث بيننا، ونعود إلى الوراء.. إلى ماقبل اللقاء، و لانلتقي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى