المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار مثبتةاقتصاد

ثقافة العمل الحديثة تقتل الدردشة.. وتقوي المداهنة

قبل بضعة أسابيع زرت شركة إنتاج إعلامي في شرق لندن. كانت مملوءة بشباب عصريين يجلسون حول طاولات كبيرة تحت سقف من الاسمنت. وقال الرجل الذي كان يصحبني لرؤية المكان: «هناك ضجة لا تصدق هنا». حركت رأسي مجاملة رغم أنني لم أشعر بأي ضجة على الإطلاق. في هذا المكان لم يكن أحد يتكلم. كانوا جميعا يعملون في صمت.

في كل مرة قمت فيها بزيارة أي مكتب منذ ذلك الحين كنت أبقي على أذني مفتوحة، وفي كل مرة كان الشيء نفسه يحدث، اذ لا يمكن سماع أي صوت سوى النقر المعتدل الصادر عن لوحات مفاتيح أجهزة الكمبيوتر. يبدو أن موظفي المكاتب توقفوا عن الدردشة والتحدث بعضهم الى بعض.
عند المشي في قاعة التحرير المركزية في فايننشال تايمز، نجد أن الجميع تقريبا يحدقون في الشاشات بصمت تام. في المكان برمته رصدت مجموعتين من الناس فقط يتحدثون، جميعهم كانوا يناقشون العمل.
لم يكن الوضع هكذا من قبل. قبل عقدين من الزمان، كان كل يوم عمل يبدأ بدردشة الزامية مدتها 15 دقيقة حول ما شاهدناه على شاشة التلفزيون الليلة الماضية. أي شخص كان مؤخرا في عطلة أو رزق بطفل أو فعل أي شيء آخر لافت سيجلب الصور معه ليريها للجميع. كنا ندردش حول القضايا الكبيرة في ذلك اليوم وماذا تناولنا على الغداء. وقبل كل شيء ننهمك في النميمة والقيل والقال بعضنا عن بعض. كان من الطبيعي جدا التجول بين المكاتب بحثا عن أناس جدد لتبادل الحديث معهم.
ذهبت  للتو الى مكتب أحد الزملاء وجلست على حافته تماما كما هو الحال في الأيام الخوالي. سألته: لماذا توقف الناس عن الدردشة في مكان العمل. رد وهو ينظر الى ساعته، لأن لديهم الكثير من العمل للقيام به. هذا ما سيخبرك به الجميع، بيد أن ذلك غير صحيح.

عوامل غير مساعدة
هناك القليل من الأدلة على أن الناس يعملون بجد لدرجة لا يمكنهم التحدث بعضهم مع بعض. وفقا لمكتب الاحصاءات العمالية، فان العاملين في المكاتب في الولايات المتحدة يقضون أقل من ثلاث ساعات يوميا وهم يقومون في عمل منتج، في حين يقضون باقي الوقت على المواقع الاخبارية أو البحث عن وظيفة أخرى على الانترنت. ومن بين الساعات الخمس التي تضيع كل يوم، لا يقضون سوى %15 في الحديث والكلام.
ما يمنعنا من الدردشة ليس كوننا بتنا أكثر انشغالا، بل لأننا نريد أن نظهر كذلك. التحرك بسرعة في أنحاء المكان الممزوج بالاحساس بوجود غرض وهدف هو تجسيد للمكانة العالية. أما الاتكاء الى الوراء على الكرسي وتسلية زميل لك بقصة مضحكة لا يعد تعبيرا عن مكانة دنيا فحسب، بل يمكن أن يحد من مهنتك أيضا.
معظم مباني مقار العمل كان لها دور أيضا في القضاء على امكانية تبادل الحديث. أفضل الأحاديث كانت تجري بين شخصين وراء باب مغلق. تصاميم المكاتب المفتوحة لا تساعد على تبادل الأحاديث والدردشة بين زملاء العمل، وعندما تقترن بالمكاتب التى يتشارك بها الموظفون، عندها تكون قاتلة. فجارك لن يكون فقط شخصا بالكاد تعرفه، بل ربما ممن يضعون سماعات الأذن على الرأس،  فحتى لو حاولت تبادل دردشة معه، لن يتمكن من سماعك.
لدى معظم المكاتب مساحات مشتركة، حيث من المفترض أن يتم فيها تبادل الحديث. ولكن حتى هذه غير مؤاتية للنميمة وأحاديث القيل والقال المبهجة، لأنها عادة ما تكون مملوءة بالناس الذين لديهم اجتماعات جادة.
في هذه الأجواء غير المؤاتية يجري اجبار الأشخاص المتخصصين بالثرثرة والقيل والقال على الخروج. كل ادارة اعتادت أن يكون لديها اثنان ممن يتمتعان بشخصية صاخبة ومرحة ولا يفعلان شيئا آخر سوى الثرثرة والنميمة، لكن ثقافة الشركات السائدة تتطلب أن يتصرف الجميع بنفس الطريقة المملة والمداهنة كما الجميع. ولم يعد هناك مكان لشيء من الصخب والضوضاء.
الأمر لا يتعلق بتثبيط الدردشة بين الزملاء والحد منها وحسب، بل لم يعد هناك الكثير الذي يمكن الدردشة بشأنه. لم يعد الناس يشاهدون برامج التلفاز نفسها، واذا أراد الناس للآخرين أن يروا ما فعلوه في عطلاتهم، فانهم يفعلون ذلك على فيسبوك.
لكن أكبر عامل قاتل للدردشة والأكثر وضوحا بين جميع العوامل هو الانترنت الذي يمنحنا المجال لاهمال وتجنب العمل ويمنحنا في الوقت ذاته مظهر المجتهدين في العمل. والأسوأ من ذلك، جعل الانترنت من الدردشة والتحدث بعضنا الى بعض أمر عفى عليه الزمن. البريد الالكتروني علمنا منذ فترة طويلة أنه من الأسهل كتابة رسالة لشخص يجلس على بعد 10 ياردات فقط بدلا من الزحف اليهم بكراسينا والتحدث مع بعض.
فقط للتأكد، اتصلت بالشخص الذي لف بي في أرجاء شركة الانتاج الاعلامي وسألته عما اذا كان هناك أي شخص يقوم بفعل الدردشة. فأجاب طبعا  يفعلون. انهم يدردشون طوال الوقت.
وعندما قلت له إنني لم أتمكن من سماع أي شيء، ضحك مشفقا علي ثم قال بعض أكثر الكلمات المحزنة والمؤسفة التي سمعتها في حياتي: نحن نفعل ذلك على «سلاك» (تطبيق رسائل للفرق).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى