المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

حسن الفرطوسي: الشطرة.. تكتب تاريخها بمداد الشعر

 

أن تكتب عن مدينة يعني أن تتبع أثر التاريخ وتحولات المجتمع ومسارات الإنسان والبنيان، وأن تلتفت إلى تقاطعات الزمن والحدث والذاكرة، وأن تلج إلى حواضن الحكايا ومصائر البشر، وأن تحضر سيرتك الذاتية ضمن هذا المدى المكاني في زمن ما، برؤية خاصة جدا تتجاوز ما يكتبه علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، إنها كتابة ذاتية عن مدينة متعددة الأوجه قد لا يتشابه حولها نصان.
بعض الروائيين كتبوا عن مدن بعينها وأصبحت سيرهم ونتاجاتهم مرتبطة بها،. بعض الكتابات الأخرى عن المدن كانت حقلا من حقول الاستشراق. ولكن تظل المدينة في كل كتابة عنها بأي جنس أدبي أو غيره، ذلك اللغز الذي له ألف حل والفضاء المكاني الذي نصنعه ذهنيا من الواقع والخيال والوجدان.
في هذه الزاوية يروي بعض الكتاب العرب سير مدنهم التي كان بعضها أحيانا فضاء سردهم الروائي.

لو افترضنا أنك دخلت مدينة الشطرة، واخترت على نحو عشوائي أي بائع خضار، أو صاحب محل بقالة، أو سائق تاكسي، أو عامل بناء، أو أي صاحب مهنة أخرى، وقمت بتفتيش جيوبه، فإنك ستجد على الأرجح، قصاصة ورقة مكتوب عليها بيت شعري أو قصيدة لم تكتمل بعد.. فجيوب سكان هذه المدينة مفاقس للقصائد أكثر مما هي مخبأ للنقود.
المدن عادة تعرّف بما تصدره من منتج، ثمة مدن تصدّر القهوة وأخرى تصدر الشاي وأخرى تصدر الفول، وهكذا شأن المدن العراقية، فمدينة ديالى سيّدة البرتقال، وكربلاء روضة الرمان، وسامراء صومعة البطيخ والحلّة بستان نخيل، والبصرة سلّة غذاء كاملة، أما مدينة الشطرة التي نحن بصدد التعريف عنها فهي مملكة الشعر بلا منازع. ولعلّ نهرها المتفرّع من نهر الغراف يحمل معه غواية الشعر، ذلك النهر الذي يتهادى شاطراً المدينة إلى صوبين تربطهما ثلاثة جسور، الجسر الأصفر شمالاً، وجسر السوق الرئيسي وسط المدينة، وجسر الحاج خيون المقابل لقصر الشيخ خيون آل عبيد، رئيس قبائل العبودة، والمدينة تاريخياً هي العاصمة السومرية القديمة (لكش) التي شهدت أول التشريعات ونظم إدارة الدولة في تاريخ البشرية، وأسسها الملك «أوركاجينا».

حفظة الشعر
خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي كان لكبار الشعراء أماكن وجودهم المعتادة والمعروفة في المدينة، الشاعر المرحوم هاشم آل فليّح، أحد أهم رواد شعر الـ«أبوذية»، لديه محل لبيع التبغ في سوق المدينة الكبير، الذي هو عبارة عن قيصرية طويلة ومتفرعة، ويعود تاريخ سوق الشطرة الى عام 1900، حيث بناه أحد تجار المدينة من الديانة اليهودية اسمه سركيس، وبعد عمليات تهجير اليهود في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، هاجر سركيس وعائلته الى فلسطين وتولى إدارة السوق وكيلهم مزهر آل حجي نجم.
دكان هاشم آل فليّح في الفرع المؤدي إلى سوق صاغة الذهب، يمثل قبلة الشعراء الشباب ومحبي الشعر وحفظته، وتجدر الإشارة إلى أن حفظة الشعر هم شريحة متخصصة بحفظ كل ما يكتبه الشعراء وبكل تنويعاته عن ظهر قلب، وتتم من خلالهم عملية تدوين المنجز الشعري للمدينة، فهم ذاكرة المدينة الشعرية، سيما وأن بعض الشعراء الرواد لا يجيدون الكتابة والقراءة. أما الشاعر المرحوم عبدالواحد الهلالي فكان صاحب محل للطباعة واستنساخ الوثائق. في الغالب تجد عدداً من الشعراء المعروفين يجالسون الهلالي ويتحدثون عما ينتج من شعر في المدينة والمدن المجاورة، كما يتردد عليه بعض الشعراء الشباب لعرض ما لديهم من قصائد أو أبيات من شعر الأبوذية.
بلبل الغرّاف
المؤرخ والشاعر عبدالله الشكرجي يصف الشاعر عبدالواحد الهلالي بـ«بلبل الغرّاف» ويقول عنه «إنه أحد رواد الحركة الأدبية في الشطرة ومن أعلامها البارزين.. متعدد المواهب.. شاعر فصيح اللسان وناقد ويمتلك صوتاً عذبا، وكان معروفا لدى الأوساط الأدبية في محافظة ذي قار. اختير رئيساً للجنة فحص النصوص الشعرية لمهرجان الشعر الشعبي الأول سنة 1969 في الناصرية. امتاز بكثرة مساجلاته في الأبوذية داخل الشطرة وخارجها في الناصرية، سوق الشيوخ، والبصرة، والفرات الأوسط. خدم الحركة الأدبية في الشطرة من خلال جلساته في بيت الحاج عبد ماهر النداف الذي يعتبر «عكاظ الشطرة» وبعدها انتقلوا الى بيت المرحوم عبدعلي ال زيارة. وبعدها اصبح مكتب الشاعر الهلالي في سوق المدينة ملتقى للرواد والهواة، وكان يرعى ما يطرحونه بلا كلل. أغنى المكتبة الأدبية في الشطرة بنتاج هائل من القصائد الشعبية والأبوذية».

مساءات وشعراء
أما مساءات المدينة ولياليها فلها أعرافها الخاصة، حيث يتجمع بعض الشعراء الرواد في ديوانية عبد ماهر الجياشي المعروفة بـ«عكاظ المدينة»، حيث يرتادها هاشم فليح وعبدالحسين الشيخ سلمان والسيد خلف والد الشاعر عريان السيد خلف، وحسن معيوف ومطشر آل شليج وجبار مرجان وعبدالواحد الهلالي وحسين الهلالي وعاطف ذياب، فضلاً عن شخصيات وشعراء يأتون من مدن مجاورة. ويذكر المؤرخ عبدالله الشكرجي في مدونته «محطات في تاريخ الشطرة الأدبي» بشأن شخصية صاحب الديوانية «عبد ماهر الجياشي أنموذجاً شطريا اجتماعياً ذواقاً للشعر ويمتلك أذناً موسيقية يميز ما يلحنون وما يكتبون. راعياً للإبداع الأدبي الشطري. يمتلك روحية عالية وشفافية في ادارة الجلسات والمساجلات الشعرية التي تعد القاعدة الرصينة والمنطلق لإبداع رواد الأبوذية في الشطرة».

الأرشفة بالشعر
وما يميّز مدينة الشطرة هو اعتياد سكانها على تداول الشعر بشكل دائم، فالشعر يتحرك في مفاصلها بتلقائية واعتياد كجزء من الحياة اليومية، وهذا ما جعل منها مدينة تؤرشف أحداثها وتاريخها شعرياً. في العام 1962 حدثت نكبة الشطرة الكبرى، حين سقطت حافلة تقلّ طالبات مدرسة العفة الابتدائية في نهر الفرات على إثر انهيار أحد جسور قضاء سوق الشيوخ، أثناء سفرة مدرسية، وكانت كارثة مؤلمة أودت بحياة اثنتين وأربعين طفلة.
وبصدد الفاجعة، يذكر الباحث غسان شلاش الشطري، صاحب أكبر ارشيف يضم تاريخ الشطرة، يقول «استقبلت المدينة المفجوعة وفوداً من الحكومة وكنائس بغداد وزعيم طائفة الصابئة المندائيين وممثل زعماء الكرد في الشمال، مع وفد من شيوخ ربيعة، وقد تم تسليم رسالة تعزية من الزعيم عبدالكريم قاسم. قرأها الأستاذ خالد عبدالحسين، عريف العزاء الرئيسي في الجامع العثماني الكبير. وقد اوضح الاستاذ خالد عبدالحسين بعضا من السير الذاتية لمعلمات المدرسة والانجازات الفنية والرياضية التي تميزت بها مدرسة العفّة وتاريخ إنشائها. كذلك استقبلت المدينة وفودا من المدن العراقية المجاورة وألقيت أروع القصائد، ومنها قصيدة الشاعر الكبير خالد عبدالله الشطري، أقدم مصوري الفوتوغراف في المدينة، وأدمى قلوب الحضور بقراءتها متهدجا باكيا ومع دموعه ضجت القاعة الكبيرة بالنواح والبكاء».
وكانت قصيدة الشاعر خالد عبدالله الشطري من أهم ما وثّق الحادثة، وقال في مطلعها:
مال المدينة أغلقت أبوابها
وخبت كواكبها وغام شبابها
وعلا الصراخ ويا لها من رهبة
أهو الجنون يثور في أعصابها؟
وإذا النساء وقد تناثر شعرها
يلطمن أكباداً يضور أوارها
هذي تصيح بنيتي معبودتي
يا دفء أحلامي التي ناغيتها
يا عيني الوسنى التي ما أغمضت
حرصاً على مهد يضم جمالها
إلى آخر القصيدة التي تتألف من ثلاثة وعشرين بيتاً شعرياً.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي توثق شعرياً، فذلك تقليد شطري خالص. ويذكر الشاعر عبدالله الشكرجي أنه بعد الفعلة الطائشة التي أقدم عليها صدام حسين في غزو الدولة الجارة الكويت في العام 1990 وما تبعها من انتفاضة شعبية كادت تطيحه، ادعى صدام بأن نسبه يعود إلى الإمام الحسين ونشر شجرة عائلة مزورة لفقها له أحد رجال الدين، وقد استنكر العراقيون هذا الادعاء وسخروا منه، وكان للشاعر علي الحقجي رفضه الشجاع، حيث كتب بيتاً «أبوذية» قال فيه:
ما نقبل تكول حسين.. يداك
بدم أحرارنا ملطخة.. يداك
إلك يوم اللي بنيته إعليك.. يداك
وتضيع إعليك كل سكة ونوية
«الشاعر مرآة عاكسة لأحوال المجتمع» بهذه الجملة يستهل الشكرجي حديثه بشأن بيت شعري كتبه الشاعر هاشم آل فليّح خلال فترة الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بسبب حكم صدام الأهوج ومغامراته الرعناء، فأضحت الحياة بلا كهرباء ولا ماء صالح للشرب ولا وقود ولا غذاء، وصار همّ الناس الأول هو الحصول على الطحين، كمادة رئيسية للغذاء، وطفحت في المجتمع حالة من اللاستسلام لظلم نظام صدام، وذات يوم مرّ الشاعر المرحوم هاشم آل فليّح في سوق الطحين وشاهد الزحام والتكالب على شراء الطحين وتمر «الزاهدي» الذي يستخدم في العادة كعلف للحيوانات، لكن الناس يشترونه هذه المرّة ليتغذوا عليه بسبب شح المواد الغذائية، فأنشد قائلاً:
يصاحب زوّدوا للروح.. همها
إل تندها ما يصيح إعليك.. همها
طحت ما بين ناس العلف همها
عساها عيشة السودة عليّ

مدينة المبدعين
ومما تجدر الإشارة إليه هو أن المدينة قد انجبت العديد من الشخصيات الفنية والأدبية والصحافية اللامعة، من بينها نقيب الصحافيين العراقيين السابق، الشهيد شهاب احمد التميمي الذي اغتالته التنظيمات الإرهابية في العام 2012، والمطرب داخل حسن، وحضيري ابو عزيز، وصباح السهل، والشاعر زامل سعيد فتاح، والشاعر زهير الدجيلي، والفنان بهجت الجبوري، والفنان التشكيلي حسين الهلالي، والملحن الراحل طالب القره غولي، والممثل طالب الفراتي، والممثل عدنان شلاش وآخرون.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى