مقالات

دون مجاملة من نور الله

 

هناك نصوص تُكتب لتُقرأ، وأخرى تُكتب لتُسكن القلب وتُحرك الروح. وما نحن بصدده ليس مجرد سردٍ لأحداث، ولا تعليقًا عابرًا على حرب أو أزمة، بل هو محاولة للغوص في جوهر اللحظة، حيث تختلط الدماء بالغبار، وتتصارع القيم مع الأطماع، ويقف الإنسان في منتصف الطريق بين العسر واليسر، بين الظلام والنور.
الحرب ليست مجرد دويّ مدافع أو صخب إعلام. الحرب في حقيقتها امتحانٌ للإنسانية كلها، وتذكير بأن سنن الله لا تتوقف، وأن التاريخ ليس مسرحًا بلا قوانين. قال ابن خلدون: “الظلم مؤذن بخراب العمران”. وما نراه اليوم ليس إلا صدى لتلك القاعدة التي لا تُخطئ: حيث يعلو الظلم، تبدأ عوامل السقوط في التكوّن، وإن طال الزمن.

قد يبدو في لحظة أن ميزان المادة هو المسيطر: الطائرات، الصواريخ، المال، الإعلام. لكن خلف ذلك هناك ميزان آخر، ميزان لا يراه إلا من أنار الله بصيرته: ميزان الله. هذا الميزان قد يسمح للباطل أن يعلو حينًا، لكنه لا يتركه بغير أجل. في لحظة ما، حين يكتمل الاختبار وتستنفد السنن شروطها، ينقلب المشهد.في أعماق التاريخ، تتكرر هذه الحقيقة. تأملوا الفراعنة: حضارة عملاقة، وجيش عتيد، وأسطورة قوة لا تُقهر. لكنهم حين تجاوزوا حدودهم وأغرقوا الأرض ظلمًا، جاء البحر ليبتلعهم بصرخة واحدة: ﴿فَاليَومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾. ميزان الله لا يُجامل.وفي المقابل، انظروا إلى بدر، يوم كان المسلمون قلّة قليلة، لا يملكون ميزان المادة. ومع ذلك كتب الله لهم النصر لأن ميزان الله قد مالت كفته للثابتين الصادقين. هنا يظهر عمق الآية: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.

في كل حرب، يظن البشر أن النهاية تُرسم بالرصاص، لكن الحقيقة أن النهاية تُرسم بسنن الله. قال مالك بن نبي تعقيبًا: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. ولعلها من أعظم قواعد التاريخ. فالهزيمة ليست دائمًا في ساحة المعركة، بل تبدأ حين ينهزم الإنسان داخليًا، حين يفقد يقينه، حين يظن أن القوة وحدها تحكم هذا الكون.لكن ما أعجب رحمة الله! فكما جعل للهزيمة سننًا، جعل للنصر سننًا. وكما جعل للعسر قانونًا، جعل لليسر وعدًا: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾. لم يقل “بعد” العسر، بل قال “معه”، لأن العسر واليسر يولدان معًا. لحظة الألم هي ذاتها لحظة المخاض، ولحظة الانكسار هي ذاتها لحظة بداية التشكل الجديد.

اليوم، ونحن نشهد أهوالًا غير مسبوقة، لا يجوز أن نتعامل مع الأحداث كأرقام جامدة. كل طفل يُقتل، كل بيت يُهدم، كل دمعة تُذرف، ليست مجرد خسارة إنسانية، بل هي شاهد على أن ميزان المادة يُفلس أمام أعيننا. فلو كانت الدنيا تُدار بالقوة المادية وحدها، لما سقطت أعظم الإمبراطوريات، ولما عاشت الشعوب المستضعفة قرونًا تقاوم وتستعصي على الإبادة.قال توينبي، مؤرخ الحضارات: “إن الحضارات لا تموت قتلًا، وإنما تموت انتحارًا”. وهذا ما نشهده: الحضارات التي تبني مجدها على القهر والاحتلال تزرع بذور فنائها بيديها. إنهم يظنون أن دباباتهم تكتب الخلود، لكن التاريخ يعلمنا أن الدم المظلوم هو الذي يكتب الفصل الأخير.

ولعل ما يثير التأمل أن الأحداث لا تجري في فراغ. الكون كله يسير وفق نظام أدق من أن تدركه العقول المحدودة. هناك رب يدير هذا الكون، وهناك سنن لا تتبدل: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۝ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾. نحن لسنا أمام عشوائية، بل أمام قدر يُسيّر العالم ليعيد البشرية إلى فطرتها، حتى وإن تمرغت في الطغيان.يظن البعض أن نور الله بعيد، غامض، لا يظهر إلا في المعجزات. والحقيقة أنه حاضر، لكنه يحتاج إلى قلب صادق يلتقطه. نور الله ليس محصورًا في السماء، بل يتنزل إلى الأرض عبر قلوب الثابتين، عبر دعاء الأمهات، عبر دموع المستضعفين، عبر شهامة رجل يقف في وجه الظلم قائلًا: “كفى”. قال غاندي: “في النهاية لن يبقى إلا ما صنعناه بالحب والحق”. وهذه الكلمة تختصر المسافة بين ميزان المادة وميزان الله. ما يُبنى على القوة المجرّدة ينهار، وما يُبنى على الحق يبقى ولو حاصرته جيوش الأرض.

ومن المفارقات المدهشة أن الغرب غير المسلم اليوم هو الذي ينتفض في الشوارع، يتظاهر ضد الإبادة، يقاطع، يرفض، ويعترض على التجويع والقصف، بينما كثير من العرب والمسلمين غرقوا في صمت مُطبق، أو في بيانات باهتة لا تُسمن ولا تغني من جوع. وكأن الغريب بات أصدق في رفض الظلم من القريب، وكأن الله شاء أن يُسقط الأقنعة عن وجوه اعتادت الادعاء. إنها رسالة أخرى من رسائل نور الله: أن العدل قيمة إنسانية لا يحصرها دين أو جغرافيا، وأن الأمة إن نامت عن واجبها، سيقيم الله الحجة عليها بغيرها.إننا نعيش لحظة اختبار كبرى: أي ميزان نختار أن نؤمن به؟ ميزان المادة الذي يُسقط العدالة من حساباته، أم ميزان الله الذي لا يظلم مثقال ذرة؟ هنا تتضح المعادلة: من سار خلف المادة وحدها انتهى إلى التيه، ومن استمسك بنور الله وجد الطريق ولو وسط العتمة.الطغاة اليوم يتفاخرون بما لديهم من قوة، لكنهم غافلون عن لحظة الانقلاب الكبرى. لحظة تنكشف فيها حقيقة أن ما جمعوه كان سرابًا. قال شوقي:“إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.”

وما نراه الآن ليس إلا تجسيدًا لهذه الحقيقة: كلما انهارت الأخلاق، اقتربت الساعة الأخيرة لذلك الكيان أو لتلك الحضارة. ومع ذلك، لا ينبغي أن نحمل هذه الأحداث بروح اليأس. نعم، العسر شديد، لكن في طياته اليسر. هذه الدماء ليست هدراً، بل هي وقود لإشعال ضمير العالم. وهذه البيوت التي تهدم، ستُبنى مكانها ذاكرة لا تُهدم. ولعل أجيالًا تولد من رحم هذا الألم، تحمل مشروعًا أرقى وأصدق مما عرفناه من قبل.قالت روزا باركس، المرأة السوداء التي فجرت ثورة الحقوق المدنية في أمريكا: “لقد سئمت الاستسلام”. وهكذا يبدأ التغيير: بإنسان واحد يقرر ألا ينكسر. فما بالك بأمة تتنفس كلها “لن ننكسر”؟

من دون مجاملة، نحن اليوم في حضرة نور الله. نور لا يُباع ولا يُشترى، لا يُقاس بالأسعار ولا يُحصى بالأرقام. نور لا يُخدع بالخطابات، ولا يُرهب بالمدافع. نور يراقب التاريخ، ويدير الأحداث، ويعيد صياغة العالم كلما غرق في الظلم. ومن لا يقرأ هذا النور، سيبقى سجين ميزان المادة، يلهث وراء لحظة قوة زائفة، حتى إذا انهارت بين يديه، وجد نفسه بلا جذور ولا مصير. أما من آمن بالنور، فإنه يدرك أن مع كل عسر يسرًا، وأن ما يجري ليس نهاية، بل بداية. بداية طور جديد للبشرية، حيث يُعاد وصل الإنسان بخالقه، وتُعاد صياغة القيم على أساس العدل، لا على أساس البطش.

قال رسول الله ﷺ: “إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا من العباد، ولكن ينزعه بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”. وما نعيشه اليوم من فوضى فكرية وأخلاقية ليس إلا مظهرًا من هذه النبوءة. لكن كما أن غياب النور يسبق طلوع الفجر، كذلك فإن غياب العدالة يسبق انفجارها من جديد.
وهنا تكمن رسالتنا: أن نكون أوعية لهذا النور. أن لا نكتفي بالتفرج على التاريخ وهو يُكتب، بل نكون جزءًا من كتابته. أن ندرك أن ميزان الله، وإن بدا خفيًا، هو الحاكم الحقيقي لمصائر الأمم.

الحرب ستنتهي يومًا. ربما بعد أسابيع، ربما بعد سنوات. لكن الأثر الذي ستتركه سيبقى أبعد من حدود الجغرافيا. سيبقى في ذاكرة الإنسانية كندبة تذكّرها بأن المادة وحدها لم تُغنِ عنها شيئًا، وأن النور الذي حاولوا أن يطفئوه كان أقدر على الاستمرار.من دون مجاملة، نور الله قادم. ليس لأنه وعد مؤجل، بل لأنه حقيقة جارية. وما نحن فيه إلا فصل من كتاب أكبر، كتاب يُكتب بدموع المستضعفين وبصبر الثابتين، ليُثبت في النهاية أن الحق لا يزول، وأن النور لا ينطفئ، وأن ميزان الله هو الحكم الأخير بين البشر.

وختامًا، إذا كنا نبحث عن المعنى وسط هذا الخراب، فالمعنى هو أن الله لا يترك الأرض للباطل طويلًا. وإذا كنا نبحث عن المشاعر، فهي دموع أمهات وآباء ترفع إلى السماء دعاءً لا يُرد. وإذا كنا نبحث عن التاريخ، فهو يخبرنا أن كل طغيان له أجل. وإذا كنا نبحث عن السنن، فهي واضحة كالشمس: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾. إنها ليست حربًا عابرة، بل امتحان كوني، يختبر به الله ضمائر البشر، ليغربلهم غربلة، فيسقط من يسقط، ويثبت من يثبت.
وفي النهاية، لن يبقى إلا نور الله، من دون مجاملة، يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى