المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

اقتصاد

سنغافورة النموذج الأنجح والأذكى للصناديق السيادية

دولة ثرية صغيرة لا تكاد تميّزها على الخريطة، تقع في جنوب آسيا في الطرف الجنوبي من شبه جزيرة ماليزيا، هي صاحبة رابع أكبر مركز مالي في العالم، وتدير المطار الأفضل في العالم، وتمتلك واحدة من أكبر مصافي النفط إلى جانب أحد أكثر موانئ العالم ازدحامًا.. إنها سنغافورة.
الدولة التي يشار إليها عادة باسم «النقطة الحمراء» (كناية عن صغر مساحتها) نجحت في تأمين مستوى عال من المعيشة لشعبها. متفوقة على مستعمرها السابق (بريطانيا)، حيث بلغ نصيب الفرد لديها من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 87 ألف دولار في عام 2016، وهو ثالث أعلى معدل لدخل الفرد في العالم.
لكن الحقيقة الأقل شهرة حول هذا البلد، والتي لا يعرفها كثيرون هي أنها تمكّنت من تأمين سيادتها وحماية أراضيها عبر امتلاكها واحداً من أكثر جيوش العالم حداثة من الناحية التكنولوجية.
عدد سكان سنغافورة يقترب من 5 ملايين نسمة، وهي خامس أكبر مستورد للسلاح في العالم (2012)، ويمثل إنفاقها الدفاعي نحو %4 من إجمالي الإنفاق العالمي على واردات السلاح، كما أن نصيب الفرد من النفقات الدفاعية يتجاوز نظيره في كل بلدان العالم باستثناء أميركا والمملكة العربية السعودية.
السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن البعض الآن، هو: كيف تمكّنت سنغافورة من تأسيس أحد أكثر الجيوش تقدمًا في العالم من حيث تكنولوجيا التسليح، يمتلك ترسانة تضم مقاتلات من طراز «إف 15» و»إف 16» وفرقطات شبحية، وفي نفس الوقت تحقّق البلاد فائضًا في الميزانية بشكل دوري، رغم أن لديها واحدا من أدنى معدلات الضرائب في العالم؟ السر وراء كل هذا ليس سوى: صناديق الثروة السيادية السنغافورية.
ويوضح التقرير التالي كيف نجحت سنغافورة في توفير الأموال اللازمة لتأمين سيادتها على أراضيها من خلال الإدارة الناجعة لصناديقها السيادية، من دون أن تضطر الى المساس ببرامجها الاجتماعية المحلية ومن دون أن تُشعر مواطنيها بأي عبء اقتصادي، وفي نفس الوقت، حماية اقتصادها المفتوح من الصدمات.
ويوضح أيضًا كيف استخدمت الدولة المدينة صناديقها السيادية كأدوات إستراتيجية وطنية ساعدتها على تعزيز ازدهارها الاقتصادي عبر دمج هذه الصناديق ضمن سياستها المالية العامة، من خلال استعراض دراسة أعدتها كلية الحرب البحرية الأميركية عام 2013.

إدارة الفائض
صندوق الثروة السيادية هو عبارة عن صندوق استثماري مملوك للدولة أو كيان يتم إنشاؤه عادة من فوائض ميزان المدفوعات وعائدات الخصخصة والفوائض المالية، أو من عائدات صادرات البلاد إلى الخارج.
تعريف هذا الصندوق لا يشمل بالتأكيد أصولا مثل احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي التي يحتفظ بها عادة البنك المركزي لأغراض ميزان المدفوعات أو السياسة النقدية.
وعلى مدار العقدين اللاحقين، تم إنشاء المزيد من صناديق الثروة السيادية في العالم. واليوم يوجد حوالي 70 صندوق ثروة سياديا تدير مجموعة متنوعة من الأصول. وفي الفترة ما بين عامي 2005 و2013 تم إنشاء ما لا يقل عن 30 صندوقا من نفس النوع، وارتفع إجمالي أصول هذا النوع من الصناديق من 3.265 تريليونات دولار في 2007 إلى 7.4 تريليونات دولار في 2017.
وأكبرها حاليًا هو صندوق الثروة السيادية النرويجي (998.93 مليار دولار)، تليه مؤسسة الاستثمار الصينية (900 مليار دولار)، ثم جهاز أبوظبي للاستثمار (828 مليار دولار)، وبعد ذلك يأتي كل من «مجلس الاستثمار الكويتي» (524 مليار دولار) و«الأصول الأجنبية لمؤسسة النقد العربي السعودي» (494 مليار دولار).
والدافع القوي الذي يقف وراء إنشاء أغلب صناديق الثروة السيادية، هو الرغبة في تجنّب السقوط في فخ «المرض الهولندي» والذي يحدث حين يؤثر ازدهار الموارد بشكل سلبي في الاقتصاد، بسبب الاعتماد على عائدات هذه الموارد وإهمال قطاع التصدير غير السلعي.

خطة مدروسة ونهج يحتذى
أول صندوق ثروة سيادية تؤسسه سنغافورة كان هو شركة الاستثمارات الحكومية (تيماسيك)، والتي تم تأسيسها في عام 1974 مع أصول أولية تبلغ قيمتها حوالي 150 مليون دولار. وفي البداية كان القوام الرئيسي للصندوق عبارة عن حيازات من الأسهم كانت تمتلكها وزارة المالية السنغافورية.
بعد 6 سنوات، وتحديدا في مايو 1981 تم تأسيس شركة حكومة سنغافورة للاستثمار، وهي عبارة عن صندوق سيادي تم تكليفه بإدارة الفائض التجاري للبلاد، بهدف الحفاظ على قيمته الشرائية وتنميته.
واستثمارات (GIC) منتشرة في أكثر من 45 بورصة حول العالم، وتشمل أنواعا كثيرة من الأصول، من بينها الأسهم والعقود الآجلة وعقود الخيارات وأصول الدخل الثابت والفوركس والأسهم الخاصة والعقارات.
وبند النفقات الدفاعية هو أكبر بند في ميزانية البلاد، وفي عام 2013 بلغ نحو 10 مليارات دولار، وهو ما مثل نحو %3.3 من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن رغم هذه النفقات الضخمة فلا تزال سنغافورة تتمتع بمركز مالي قوي، وخزانة الحكومة تستمر في النمو، ومنذ فترة طويلة لم تشهد الميزانية عجزًا، سوى في 2009 عقب الأزمة المالية العالمية.
وتمكّنت سنغافورة من إبقاء إنفاقها الدفاعي عند هذه المستويات العالية من دون المساس بسلامة المالية العامة أو اللجوء إلى رفع الضرائب. بل على العكس، تمتلك سنغافورة أحد أدنى معدلات الضرائب على الدخل الشخصي في العالم (%7)، ومعدل الضريبة المفروض على الشركات (%17) يعتبر تنافسيًا للغاية.
مرة أخرى، ما هو سر توازن المعادلة؟ الجواب هو صناديق الثروة السيادية. بالنظر إلى الميزانية السنغافورية نجد أن هناك بندا خاصا يندرج تحت الإيرادات يسمى «صافي دخل الاستثمار». هذا البند يشير إلى عائدات البلاد من صناديقها السيادية.
وبموجب المادة رقم 142 من دستور جمهورية سنغافورة، يحق للحكومة استخدام ما يصل إلى %50 من صافي دخل الاستثمار، والذي يتكوّن من عائدات البلاد من صندوقيها السياديين «تيماسيك» و(GIC) إلى جانب الأرباح التي يحقّقها البنك المركزي للبلاد.
مساهمة هذا البند في الميزانية ليست بسيطة. ففي الفترة بين عامي 2007 و2012، تمكّن هذا البند بمفرده من تغطية ما يتراوح بين %7 و%17 من النفقات التشغيلية والإنمائية. ومن دون هذه الصناديق، كانت ميزانية البلاد ستتراجع إلى المنطقة الحمراء، وتستقر بها بداية من عام 2008، وكانت الحكومة ستجد صعوبة في تمويل برامجها الاجتماعية.

السائق أهم من العربة
الصادرات تشكل وحدها %75 من الناتج المحلي السنغافوري، وهذا يجعل البلاد عرضة لهزات عنيفة في حال وقعت تقلّبات اقتصادية أو جيوإستراتيجية غير سارة. فالأزمة المالية العالمية عام 2008، هددت بتقويض العالم بأسره، والاقتصاد السنغافوري كان أكثر تأثرا من غيره بما وقع.
ومع ذلك، خلال ذروة الأزمة المالية العالمية في أواخر 2008، عندما تعرّضت سوق الإقراض للشلل وانهار «ليمان برازرز» أعلنت الحكومة السنغافورية أنها ستضمن جميع ودائع العملة الأجنبية للأفراد وشركات التمويل والبنوك التجارية.
وهذا القرار كان مدعوما باحتياطيات، تقدر بنحو 120 مليار دولار بنتها البلاد على مر السنين بفضل صناديقها السيادية. وهو نفس السبب الذي جعل البلاد تصمد في مواجهة الأزمة الآسيوية التي عرقلت جيرانها: كوريا الجنوبية وتايلند وماليزيا.
واستخدمت سنغافورة صناديقها السيادية بشكل إستراتيجي ذكي، وهو ما مكّنها من القفز فوق القيود التي تفرضها المساحة الجغرافية المحدودة، وتوسيع بصمتها الاقتصادية والسياسية، وتعزيز مركزها المالي والتحوط ضد مخاطر التقلّبات غير المتوقعة.
وتجربة سنغافورة مع صناديق الثروة السيادية يمكن لكثير من الدول استخلاص دروس عدة منها، ولكن ربما الدرس الأهم هو الطريقة التي تمكّنت من خلالها البلاد من استخدام هذه الصناديق في خدمة مصالحها الوطنية، بالإضافة إلى مزايا اتباع نهج استثماري طويل الأجل.
لكن في نهاية المطاف، يجب علينا جميعًا أن ندرك أن الصناديق السيادية ليست حلا سحريا ولا تزيد على كونها أداة. ما يحدث الفارق الحقيقي هو القيادة السياسية للبلاد المسؤولة وحدها عن تحديد المصالح الوطنية وتعبئة وحشد الموارد الوطنية في خدمتها لتحقيق الأهداف العليا للبلاد. (أرقام)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى