على حروفه نُكبر “حين كتب نورًا”

محمد تهامي
في مساءٍ ليس ككلّ مساء، وبين يديّ ورقةٌ يتيمة، زرقاء اللون، لكنها زرقاء بمعناها الأسمى… بلون السماء حين تُقبِّلُ أذان المغرب في يوم عرفة، أو بلون الرحمة حين تُظلّل قلبًا موجوعًا بالحنين. على هذه الورقة خُطّت كلمات، لم تكن كلماتٍ وحسب… بل كانت أنفاس والدي، رحمه الله.
إنه خطُّ يده. تكبيرات العيد كما كتبها، كما نطقها، كما عاشها.
يا الله… كم من الذكريات تُولد حين ترى أثر من أحببت؟ وكم من الأعمار تتوقف لحظة، فقط لأن حرفًا واحدًا منهم قال: “كنتُ هنا”؟
✦ “الله أكبر” بخطه!
أمسكت بالورقة، فتوقّف الزمن.
ها هو يكتب:“الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد” وما بين السطور، كان صدى صوته يرنُّ في أذني، كما كان يفعل صباح كل عيد، وهو يوقظنا على أنغام التكبير لا على صوت المنبه. في خطه شيء من الرجفة… لا رجفة اليد، بل رجفة الخشوع. كأنه يكتب على ورقٍ من قلبه، لا من شجرة. كل كلمة تشهد أنه لم يكن يكتب بمداد، بل بروحه. كل “الله أكبر” تُنطق الآن، وأنا أقرأها، بلهجة والدي، بدماثته، بخشوعه الذي لم أعهده في أحد سواه.
✦ الأب… وورقة من نور
كان والدي، رحمه الله، لا يترك مناسبة إلا وقد ترك فيها شيئًا منه: دعاء، ورقة، وصية، أثر. لكنه في هذه الورقة ترك كلّه. وكأنها آخر ما كتب، آخر ما ودّع به الدنيا: “لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده”.
أقرأها… فتدمع عيني لا حزنًا، بل مهابة. أشعر كأني أطالع وصية الأنبياء. فيها من الطُهر ما يكفي لتغسيل قلبك، ومن النور ما يكفي لهداية عمرك.
✦ حين يصبح الخط صلاة
لم يكن خطّه أنيقًا على الطريقة الحديثة، لكنه كان خاشعًا. كل انحناءة لحرف الكاف تقول: “الله أكبر”، لا بخوف، بل بثقة. كل مَدٍّ في كلمة “الحمد” يقول: “رضيتُ عنك يا رب”، كما كان يقولها بعينيه لا بلسانه. إنه ليس خطًا… إنه صلاة مكتوبة. لا أعلم إن كان أبي كتبها لنفسه، أو لأولاده، أو لله وحده.
لكنني أعلم أنه كتبها بيقين من عرف الله، وخَبِر الحياة، واستعدّ للقاء.
✦ من الورقة… إلى القلب
لم تكن الورقة من النوع الفاخر، لا تحوي ختمًا، ولا لونًا، ولا زخرفة.
لكنها عندي أعظم من ألف وثيقة.
إنها الخط الأخير من رواية اسمه، الصدى الأخير من صوته، النَفَس الأخير من ذكره. كلما نظرت إليها، شعرت أنني أصلي، ولو لم أكن في محراب. كلما قرأتها، شعرت أن التكبير لا يزال حيًّا، وأن أبي، رحمه الله، لم يمت ما دامت “الله أكبر” تخرج من خطه إلى قلبي.
✦ بين العيدَين… وبين يديه
ما بين ليلة القدر، التي تنزل فيها الملائكة، ويوم عرفة، الذي يباهي الله فيه عباده، ثمة من كتب التكبير ليُعلّمه للقلوب من بعده. ثمة من لم يكتفِ بأن يكبّر بصوته، بل أراد أن يكبّر بقلمه، بيده، بحياته. هل يدرك الناس قيمة هذا الخط؟ ربما لا.
لكنني أعرف أنه في عالم الأرواح، هناك ورقة زرقاء ترتفع، ويُقال فيها:
“هذا عبدٌ كان يكتب الله أكبر من قلبه… فاكتبوها له نورًا إلى يوم يُبعثون”.
✦ التكبير الذي لا ينطفئ
رحمك الله يا أبي…كتبتَ التكبير ذات عيد، فصار عيدُنا بك لا يمرّ دون دمعة، ولا يُشرق دون أن نبحث عنك في الورقة، في الجدار، في الذكرى.
نُكبر الآن كما كنت تكبّر… لكننا نُكبّر بصوتٍ مكسور، فيه شيء من الاشتياق، وشيء من الوفاء، وكثير من الرجاء أن يجمعنا الله بك في أعلى جنّاته.
✦ في الختام
لم تكن هذه الورقة مجرد أثر، بل كانت حياة. لم يكن خطُّ والدي مجرد كلمات، بل كانت همسات خشوع ما زالت تتردّد. سأضعها في قلبي، لا في درج. سأحملها معي في كل عيد، وأقول لأولادي: “كان جدكم يُكبّر لله، ويكتب لله، ويعيش لله”. وكلما ضعفت قلوبنا، سنعود إلى ورقته، ونُكبّر من جديد.
اللهم ارحم أبي، كما علّمني أن أُكبّر،
وارحم أمي، كما علّمتني أن أُحب.
اللهم اجعل خطّه نورًا في قبره، كما كان نورًا في بيتنا، واجعل حنانها سكينة في قبورها، كما كانت سكينة في أعمارنا. اللهم اجعل والدينا من أهل الجنة، واجعلنا لهم صدقة جارية، واجمعنا بهم في أعلى الفردوس، لا فاقدين ولا مفقودين.
اللهم آمين… آمين.