في حضرة الرجاء…حين تختلط الخطى بظلال الذكرى

محمد تهامي
في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتقلّص فيه المسافات وتبهت فيه التفاصيل، تبقى لحظات الوفاء وحدها صامدة في وجه التغيّر، عصيّة على الزوال، شاهدة على أن الإنسان ليس بما يملك، بل بما يترك في أرواح من مرّ في حياتهم. وفي زحام هذا العالم، تشرق بين حينٍ وآخر لحظةٌ إنسانية، ليست كغيرها، لحظة تختزل في صمتها ما عجزت عن صياغته مجلدات، وتوقظ فينا يقينًا بأن الحب الحقيقي لا يشيخ، وأن الأثر لا يُقاس بطول الصحبة بل بعمقها. ولقد كنت في إحدى هذه اللحظات، حين مررتُ أمام بيت الراحل عبداللطيف الهاجري، رحمه الله، بعد صلاة المغرب، برفقة ابني محمود، فشعرت أن الأرض قد توقفت لحظة، وأن الزمن قد انحنى ليمنحني فرصةً نادرة لمصافحة الذكرى.
كان مقالًا كتبته بقلبٍ ممتلئ بالشوق والوفاء، عن عبداللطيف، لا كرثاءٍ عابر، بل كمحاولةٍ لالتقاط المعنى من غيابه، واستحضار ملامح حضوره الذي لم ينطفئ. وبعد نشره، جاءني تعليق من صديق عزيز، قارئٍ تشرّفت بصحبته، قال فيه: “ونقف أمام البيت، في لحظة لا توصف، تختلط فيها مشاعر الحنين، بالشكر، بالفخر، بالرجاء… لو تشاركني وصف تلك المشاعر الأربعة ومعناها بالنسبة لك، فحديث المشاعر والقيم حديث لا يُمل، خاصة إذا كان حديث واقع حال، لا مقال فحسب”. وقد كان تعليقه هذا بذرةَ مقال جديد، لا لأنّه اقترح فكرة، بل لأنه استنطق ما ظل صامتًا في وجداني، وسأل سؤالًا لم أجب عليه بالكلمات، بل بالدمعة، والخطى، والصلاة.
الحنين… تلك الكلمة التي يظنها الناس ضعفًا، وهي في حقيقتها أنقى أشكال الوفاء. الحنين ليس ندمًا على ما مضى، بل شوقًا لما لا يزال يعيش فينا. حين كنتُ واقفًا أمام بيت “بو عبدالرحمن”، شعرت أن الجدران تنبض، أن النوافذ تبتسم، أن الهواء يحتفظ ببقايا صوته. كان الحنين في تلك اللحظة كفجرٍ يُولد في القلب، لا يكسوه الحزن، بل يُضيئه الأمل.
أما الشكر، فهو ليس شكرًا لموقف أو مساعدة عابرة، بل شكرٌ على وجودٍ منحنا الكثير دون أن يطلب، علّمنا بالقدوة، وربّى بالصمت، وأثرى المكان بما لا يُقاس. الشكر هنا لا يُقال، بل يُعاش، بأن نكمل المسيرة بذات الإتقان، ونبقي للمؤسسة نفس الروح التي وضع بذرتها.
والفخر… يا له من شعورٍ عميق، لا يتعلق بالانتماء لرجلٍ عظيم فحسب، بل بشرف أن نكون ضمن حكايةٍ كتب فيها عبداللطيف سطورًا خالدة. الفخر بأننا شهدنا زمنًا كان فيه الرجل الصادق مرجعًا، والمخلص قائدًا، والبسيط حكيمًا. ذلك الفخر الذي يجعلنا نرفع رؤوسنا كلما ورد اسمه في حوار، أو استشهدنا بكلماته في اجتماع.
ثم يأتي الرجاء… وهو أعذب ما في الأمر، الرجاء في لقاء، في دعاءٍ يُقبل، في رحمةٍ تُغمر بها روحه، في استمرارٍ للرسالة التي حملها. الرجاء أن يكون ما نقوم به الآن امتدادًا لما بدأه، رجاء أن نكون نحن، من بعده، على قدر تلك المحبة، وتلك الأمانة.
وقد تذكرت قول المنفلوطي حين كتب: “يموت الميت فيموت بموته كل شيءٍ كان منه… إلا ذلك الأثر الطيّب، فإنه حياةٌ جديدة له، لا تموت حتى تموت الدنيا.”، وما أعظم هذا القول في حق من ترك بيننا بذورًا لا تزال تُزهِر. كما تذكرت مصطفى السباعي حين قال: “الوفاء ليس أن نذكر من رحل، بل أن نعيش كما لو أنه لا يزال بيننا”، وها نحن نعيش على هذا النهج، لا نكتب عن عبداللطيف، بل نكتب به، وبه نستمد النور في لحظاتٍ كادت أن تُظلم.
أما أمير الشعراء أحمد شوقي، فقد سكب في بيتٍ شعريٍّ وحيد ما نعجز عن صياغته نثرًا حين قال:
قد ماتَ قومٌ وما ماتت مكارمُهمْ
وعاشَ قومٌ وهمْ في الناسِ أمواتُ
ونشهد، والله حسيبه، أن عبداللطيف من أولئك الذين ما ماتت مكارمهم، وما جفّت آثارهم… وإن غاب الجسد عن المكاتب والمساجد، فإن الأرواح العظيمة لا تُطوى في الأكفان، بل تُنشر في كل مكانٍ عبر قيمها، وسيرتها، وصدق عطائها. وقد عبّر أحد الأصدقاء المقرّبين بكلمات نابضة قال فيها: “رحم الله اللطيف، عبده، عبد اللطيف”… في اختزال مدهش يجمع النور الإلهي، والطهر الإنساني، والاسم الذي صار عنوانًا للعطاء الخالص.
لقد كانت تلك اللحظة، حين مشيت أمام بيته، لحظةً جامعة لكل مشاعر الإنسان النقيّ: الحنين الذي يوقظ الذاكرة، الشكر الذي يُطهر القلب، الفخر الذي يشدّ الظهر، والرجاء الذي يرفع البصر. لحظةٌ لا تروى، بل تُعاش، ولا تُكرر، بل تُخلَّد.
وفي النهاية، ندرك أن أعظم الوفاء ليس في المقالات، ولا في الذكريات، بل في الاستمرارية. أن نُبقي على الروح التي أحببناها مشتعلةً في مؤسساتنا، في تعاملاتنا، في نظرتنا للعمل والناس. إن من يرحل وقد علّمنا كيف نحيا، لا يرحل فعلاً، بل يصبح دليلًا، وبوصلة، ونموذجًا. فسلامٌ على عبداللطيف الهاجري، في قبره، وفي المسجد، وفي البيت، وفي القلب. وسلامٌ على من يُبقي الذاكرة حيّة، لا بالبكاء، بل بالفعل.