نور العلم واليقين: وداع د زغلول النجار

محمد تهامي
رنّ الهاتف في ظهيرة التاسع من نوفمبر 2025، وكان الصوت على الطرف الآخر يحمل شيئًا من الارتباك وشيئًا من الحنين. لم يكن صوتًا غريبًا عليّ، لكنه جاء من عمقٍ بعيدٍ في الذاكرة. قلتُ برقة: “أهلاً أبا أحمد، خيرًا؟” فسكت لحظة، ثم قال بصوتٍ تتهدّج نبراته كمن يحاول أن يُخفي رجفة القلب: “د. زغلول النجار… رحل.” توقفت الكلمات عند هذا الاسم، شعرت وكأن الزمان انكمش، وعادت بي الذاكرة لا إلى وجهي أنا، بل إلى وجهٍ آخر – وجهه هو، ذلك الصديق الذي عايش د. زغلول في الكويت منتصف السبعينات، حين كانت الجامعة تصنع رجالها بالصبر لا بالشهادات، وبالعقل لا بالألقاب.
لم ألتقِ د. زغلول النجار يومًا، لكنني عرفته من قلبٍ عرفه. وصديقي ذاك، المدرس المساعد بجامعة الكويت عام 1975، كان يحدثني عنه في كل لقاء وكأنه يتحدث عن عالمٍ لم يُخلق مرتين. واليوم، بعد أن سمع بخبر وفاته، أعاد الرواية من بدايتها، كمن يفتح كتابًا عتيقًا ليقرأ آخر صفحاته وهو يبكي على الصفحة الأولى.
قال لي بصوتٍ مبحوحٍ تغشاه السكينة: “كنتُ مدرسًا مساعدًا في قسم الجيولوجيا، وكان هو رئيس القسم. كنت أزوره في بيته في مجمع لؤلؤة المرزوق برأس السالمية. أحمل فصول رسالتي للماجستير تحت ذراعي، وقلبي يسبقني إليه هيبةً ومحبة. أدخل بيته فأجده مجلس علمٍ من نوعٍ آخر، لا فخامة في الأثاث، لكن في الأرواح فخامة تكفي.” توقف قليلًا، ثم أكمل وكأنه يرى المشهد أمامه: “كنت أجد عنده رجالًا كأنهم فصول من كتاب الأمة، د. عبد العزيز كامل، وزير الأوقاف الأسبق، د. حسان حتحوت، مؤسس كلية الطب وأحد أعمدة الدعوة والعقل، وجوه يملؤها النور، وحديث لا يخلو من ذكر الله.”
قالها بصوتٍ تغشاه الدهشة: “كان زغلول النجار يا صاحبي يعيش العلم كما يعيش المرء صلاته، لا يتكفله، بل يتنسّم فيه أنفاس العبادة. كنت أقرأ عليه فصول بحثي، فيناقشني لا من علٍ، بل كأبٍ يُحاور ابنه. ثم يبتسم ويقول: “يا بني، العلم لا يُسكب في الرأس، بل في القلب؛ فحين يحبّ القلب الحقيقة، يُلهمها الله له.”
قال لي: “كنت أخرج من بيت د. زغلول، وكأن الضوء قد سكنني. وفي الطريق إلى الجامعة، كنت أتمنى أن يتباطأ الزمن، لأطيل حديثي معه. أتصدق؟ كان إذا رآنا ننتظر الحافلة عند الموقف، أوقف سيارته ودعانا للركوب. ما عرف الكِبر طريقًا إلى قلبه، كان يرى فينا الغد، ويبتسم له قبل أن يولد. ثم أخذ صديقي يصف لي السيارة وكأنه يصف قطعة من ذاكرته: “كانت سيارته – الأنيقة المميزة – تهبط عند التوقف فتغطي الإطارات، كأنها تنحني احترامًا لصاحبها. كان دقيقًا في مظهره، مرتبًا في كل شيء، حتى حذائه له نظام خاص – كان يلبس حذاءً مخصصًا عند دخوله مكتبه احترامًا للمكان والعلم.” ضحك وهو يتذكر، ثم سكت قليلًا وقال: “كنا نعرف أنه في الكلية من صوته وخطواته، تلك الخطوات التي تحمل وقار العلم وطمأنينة المؤمن.”
كان الجو في الكويت في تلك الأعوام مشبعًا بالنهضة الفكرية والعلمية. رجالٌ من مصر والشام والهند وباكستان اجتمعوا ليبنوا جامعة لا تُخرّج طلابًا فقط، بل تصوغ عقول أمةٍ صاعدة. وفي قلب تلك المرحلة كان زغلول النجار – متألّقًا في علمه، شامخًا بتواضعه، يزرع في طلابه أن الكون لا يُقرأ بالعين وحدها، بل بالبصيرة.
روى لي صديقي كيف سافر د. زغلول عام 1976 إلى جنوب إفريقيا، إلى جوهانسبرغ تحديدًا، وكيف عاد بعدها يحمل في صوته وجعًا عميقًا للمسلمين هناك. قال: “أذكر حين أقامت له اللجنة الثقافية في الجامعة محاضرةً عن أوضاع المسلمين هناك. كان حديثه مزيجًا من الألم والأمل. قال يومها: “رأيت إخوةً يعيشون الإسلام في الغربة، لكنهم غرباء في وطنهم. ومع ذلك، كانت قلوبهم عامرة بالله، فكأن الوطن يسكن فيهم.” كانت تلك الجملة كافية لتترك أثرًا في كل من سمعه. فالعالم عنده لم يكن محاضرًا فقط، بل شاهدًا على الحياة بمعناها الواسع – حيث يتحول العلم إلى رسالة، والرحلة إلى شهادة، والإنسان إلى أمة.
استمعْتُ إليه طويلًا وأنا صامت. كنت أسمع من صديقي صدى زمنٍ لم أعشه، لكنه صار في قلبي كما إن كنت فيه. كان يتحدث عن رجلٍ يجمع بين دقة العالم، وأناقة المتأمل، وخشوع العابد. عن رجلٍ إذا تحدث عن الصخور رأيت في صوته تسبيح الأرض، وإذا تحدث عن الأحافير شعرت أنه يقرأ في صمتها آيات الله.
قال صديقي: “كنت أراه يمسك قطعة من صخرٍ أحفوري ويقول: “هذا الصمت الذي تراه في الصخر، هو حديث أجيالٍ مضت، فإذا قرأه العالم بإيمانٍ، فهم من خلاله حكمة الخالق قبل أن يقرأ أسماء المخلوقات.” ثم أكمل: “وحين سمعنا به بعد ذلك بسنواتٍ في مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، لم نفاجأ، لأننا كنا نرى النور في ملامحه منذ ذلك الحين.” قلتُ له وأنا أحبس دمعي: “وكيف كان أثره فيك يا أبا أحمد؟” قال: “علّمني أن التواضع أعلى مراتب الكبرياء في العلم. وعلّمني أن الإيمان لا يُدرّس في المساجد فقط، بل في المختبرات أيضًا. كان إذا رفع عينيه نحو السماء قال: “العالم الحقّ لا يكتشف إلا ليتعبد.” ثم سكت قليلًا، وكأنه يريد أن يختم ما بدأه: “رحل اليوم الجسد الذي كان يهب الحياة للمعنى، وبقيت بصماته تنبض في الفكرات والطرقات والذكريات، وبقي من علم الأحافير حفرياتٌ من نورٍ في ذاكرة طلابه.”
وسكت الصديق، وانحنى صوته على حافة الذكرى، كمن يخشى أن يوقظ زمنًا مضى. كان يتحدث عن د. زغلول، لا بوصفه عالمًا فحسب، بل بوصفه نورًا كان يمشي بين الناس في هيئة بشر. أحسست وأنا أصغي إليه أن بعض الأسماء لا ترحل، بل تبقى معلّقة بين السماء والأرض، تؤنسنا في الغياب كما كانت تلهمنا في الحضور. وقلت في نفسي، ولا أملك له اليوم إلا دعاءً: اللهم اجعل علمه شاهدًا له لا عليه، وكتبه صدقةً لا تنقطع، وتلاميذه منارةً تمتد في دروب الزمان. اللهم اجزه عن الأمة خير الجزاء، وعن الحق خير الثواب، وقرّ عينه بما زرع من يقينٍ في قلوبٍ عطشى إلى الإيمان والعلم. اللهم اجعل قبره نورًا، وذكراه بشرى، وصوته الذي كان يفيض باليقين نداءً يُتلى في الملأ الأعلى.
فما خبا ضوء من كان يكتب للحق، ولا مات من علّم أن كل ذرةٍ في الكون تسبّح بحمدك يا رب. نمْ في رحاب رحمتك، أيها العالِم الذي لم يضق صدره يومًا باليقين، ولا ضاق علمه عن الإيمان. وبقيت بصماتُك تنبض حتى إذا ذُكر العلمُ، أشرقت صورتك من بين الحروف، كأنك تقول لنا من وراء الغيب: “اثبتوا على الحق، فالعلم عبادة، واليقين حياة.”
أغلقت الهاتف بعد مكالمتنا، وجلستُ طويلًا أتأمل صدى الكلمات. لم أعرف د. زغلول النجار وجهًا لوجه، لكنني شعرت أنني عرفته من خلال صديقي الذي أحبّه، ومن خلال القيم التي عاش لها. عرفته لا باللقاء، بل باليقين. تذكرت حينها كلمات د. حسان حتحوت، التي طالما رددها: “العلم لا يكون رحمةً إلا إذا صار جسرًا بين الإنسان وربه.” وكان زغلول النجار ذلك الجسر المضيء، الذي عبر عليه آلاف الطلاب نحو المعنى. وتذكرت قول الرافعي: “ما أشرف العالم إذا جعل من العلم عبادة، ومن العبادة علمًا.” وما أشرف د. زغلول، وقد جعل من كل اكتشافٍ تسبيحًا، ومن كل حفريةٍ دعاءً، ومن كل درسٍ طريقًا إلى الله. وتذكرت أيضًا مقولة عبد الله المطوع رحمه الله: “من جمع العلم بالخلق، فقد بلغ الرسالة.” ولقد بلغها زغلول النجار، وأحسن حملها، ومضى عنها وهو يُسلمها للأجيال.
رحمك الله يا من قرأت في الصخور معنى الخلق، وفي الذرات أثر القدرة، وفي كل آيةٍ من كتاب الله طريقًا إلى اليقين. لم تكن الأحافير علمك فقط، بل رمزك الأبدي: فكما تحفظ الصخور آثار الأمم، سيحفظ الزمان أثرك في قلوب الناس. رحلتَ يا دكتور زغلول، لكن صوتك ما زال يقول: “اقرأوا الكون كما تقرؤون القرآن، ففي كليهما كلام الله.” سلامٌ عليك يوم علمت، ويوم ألهمت، ويوم ودّعت، وسيبقى علمك صدقةً جارية، تروي القلوب كلما عطشت إلى الإيمان بالعلم، وإلى العلم بالإيمان. وها أنا أكتب، لا عن رجلٍ عرفته، بل عن نورٍ عرفت أثره… عن عالمٍ علّمنا أن من قرأ الأرض بصدقٍ، رأى فيها وجه السماء.




