المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

واسيني الأعرج: الشام.. أرض مضادة للعدمية

 

هناك مدن لا يمكن تفاديها. أينما التفتنا، فهي مثل الشمس أمامنا. لماذا؟ لأن هناك مدنا نسكنها، وأخرى تسكننا وثالثة نسكنها فتسكننا. تلك هي دمشق. إقامتي فيها عشر سنوات، من 1975 – 1985 غيرت أشياء كثيرة في حياتي. صحيح أن الهدف من الإقامة، كان أكاديميا، تحضير بحثي ماجستير ودكتوراه في الرواية العربية/ التاريخ والمؤثرات، ولكن انشغالي بفعل الكتابة أخرجني من الأكاديمية، دون أن أنفصل نهائيا، ودفع بي في عمق الإبداع. كانت دمشق الشام وقتها مرجعا ثقافيا حقيقيا.
منحتني الشام، وسوريا، يومها فرصا كثيرة للتعرف على حاراتها، ومدنها، وشعبها، وأيقوناتها الروائية والمسرحية والشعرية، من أمثال حنا مينا، سعدالله ونوس، محمد كامل الخطيب، نبيل سليمان، هاني الراهب، أحمد يوسف داوود، قمر كيلاني، وفواز الساجر وزوجته السابقة فاطمة، ومصطفى الحلاج، وممدوح عدوان، وفائز خضر، ومحمد عمران، وغيرهم من كبار الأدباء والفنانين السوريين الذين بنيت معهم صداقات جميلة ودائمة، بعضها ما يزال مستمرا حتى اليوم، أي بعد أكثر من أربعين سنة، على الرغم من الحروب القاسية واختلاف الرؤى.

أهم مكان في ذاكرتي
كانت الشام مدينة ثقافية بامتياز، تمنح ضيفها العربي قلبها بسخاء. لم أجد ما يجعلني أغضب منها أبدا. أقمت في أماكن متعددة ما تزال إلى اليوم حية في الوجدان تمنح الذاكرة خصوصية استثنائية. أقمت في أماكن كثيرة لا تبرحني تفاصيلها حتى اليوم، الإطفائية، شارع بغداد. السبع بحرات. البنك المركزي، الجسر الأبيض، شورة، أبو رمانة، لكن أهم مكان ظل في ذاكرتي حيا حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، هو سوق ساروجة، خلف سينما السفراء. كان مكانا شعبيا جميلا وهو أيضا المكان الذي ولد فيه ابني البكر باسم، بينما ولدت ريما في بيت أبو عامر، في الكازية (الشهبندر) في عمق الشام.
أمكنة لا تزول أبدا، فهي حقيقية أحملها فيّ بكل علاماتها التي تعيدني إليها، لكن الذاكرة أعادت تصنيعها في كتابات كثيرة رسمت تجاربي الروائية الأولى: منها «وقع الأحذية الخشنة»، و«طوق الياسمين» التي موضوعها مدينة دمشق. «أنثى السراب»، حب به عطر الشام ومياه منابع بردى. أمكنة المدينة كانت حية، وكنت أراها وأنا أكتبها حتى بعد أن عدت إلى الجزائر حاملا في قلبي عشر سنوات في الشام غيرت حياتي رأسا على عقب. في ذهني أسماء كثيرة لا تغيب أبدا مثل لورانس، نادل مطعم وبار «اللاتيرنا» أو «القنديل». في رأسي أيضا مطعم «الريس» الذي كان يرتاده صديقي المرحوم عيد عشاب. أو المتحف الذي كان يدرسنا فيه الدكتور المرحوم عفيف بهنسي مادة الفنون. تملأ ذهني الآن أيضا أضواء مسارح الشام، المسرح القومي والمسرح التجريبي، والزهراء والعمال. كانت دمشق شعلة حياة وحب ونور.

الرقة ملفعة بالسواد
أبهذه السهولة تقتل المدن العظيمة أو تموت؟. في داخلي شيء قوي يقاوم هذه الفرضيات الصعبة التي تؤثث الحروب اليوم في سوريا. كم تغيرت الحياة وانقلبت رأسا على عقب. وتغير كل شيء وتمزقت كل التفاصيل التي كانت تصنع يومياتنا. ولم تعد الشام أرض السلام والحب والبساطة والتجول ليلا. وكيف كنا ننزل على الثانية بعد منتصف الليل، بعد سهرة طويلة، نشتري أرغفة الخبر من فرن الصالحية الذي ما يزال بخاره يتصاعد وتملأ رائحته أنفي. نستمتع بالسير في الشارع أنا وزوجتي، ندفع العربة التي ينام فيها حبيبي باسم، ابني البكر.
عندما سمعت بأن قتلة داعش في مدينة الرقة عرفت أن المسألة جادة وشديدة الخطورة، وأن جزءا من ذاكرة سوريا سيذهب مع الريح. استرجعت الرقة، المدينة التي كنت أعرفها جيدا، وزرتها خلال إقامتي في سوريا العديد من المرات. وعندما زرتها للمرة الأولى، كنت مصمما على أن ألتقي بأيقونتها الأساسية عبدالسلام العجيلي، الذي كنت قد التقيته في الشام قبل فترة، في لقاء عابر. كم كانت فرحتي كبيرة بالتعرف على رجل لم يمنعه السن من أن يكون أنيقا وهادئا وجميل القلب والمحيا. كنت مندهشا من رجل تحول إلى أيقونة عاشت طويلا (1918 – 2006) ومرت عبر مناصب إدارية عديدة، وظلت بكل ألقها وتواضعها. فقد انتخب نائباً عن الرقة عام 1947. وانخرط بحماس في صفوف جيش الإنقاذ عام 1948، التاريخ الذي صادف نشر أولى مجموعاته القصصية «بنت الساحرة». كما شغل مناصب وزارية عدة، منها وزارتا الثقافة والخارجية. وقد بلغ عدد أعماله أربعة وأربعين كتاباً حتى 2005 موزعة بين الشعر والقصة القصيرة والرواية. ترجم الكثير من أعماله إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والأسبانية والروسية. وتوفي بعد عمر مديد، 88 سنة، في 5 أبريل من عام 2006. وعندما زرت الرقة في إطار مهرجان العجيلي الثاني للرواية العربية من 17إلى 20 ديسمبر 2006. كان عبدالسلام العجيلي هو الغائب الأكبر. لكن ظله وابتساماته وانبهاره بالدنيا وجمالها وجهده الطبي في مصلحة الناس، ظل طاغيا على كل شيء. شعرت يومها أن العجيلي أصبح سجين مدينة ملفعة بالسواد، لم يعد يعرفها.

قتلة البشر والحجر
أتساءل ماذا بقي من الرقة التي عرفت وأحسست وأحببت؟ ماذا بقي من ناسها الذين زرت بيوتهم وأكلت طعامهم وشربت شايهم، وقاسمتهم فرحا ظننته دائما؟ ماذا بقي من فراتها العظيم الذي منحها الحياة منذ أغبر العصور وجعل من الرقة، نيكفوريوم وغالينوس في الفترة الإغريقية، مركزا حيويا للتبادلات التجارية والزراعية عبر الفرات، نحو الخليج العربي وبابل والهند؟ ماذا بقي من الرقة أو الصخرة المسطحة كما سماها المسلمون التي بنى فيها في عام 772 ميلادية، الخليفة العباسي المنصور، عاصمته الصيفية، وأطلق عليها الرافقة التي اندمجت بين عامي 796 و808 ميلادية مع الرقة، قبل أن تتحول إلى عاصمة ثانية للخليفة العباسي هارون الرشيد؟ ماذا بقي اليوم، في ظل قتلة البشر والحجر، من أسوار المدينة التي شيدها العباسيون والتي لم يبق من أبراجها التي بلغ عددها 74 برجا سوى ستة أبراج تم ترميمها، وحتى المتبقي منها يكون العدميون الداعشيون قد أتوا عليه؟.. ماذا عن باب بغداد الذي كانت تنطلق منه القوافل متجهة من بلاد الشام إلى بغداد، وفتحة باب حرّان؟
وماذا عن الجامع العتيق (جامع المنصور) بمئذنته الشامخة وقناطره العديدة؟ ماذا عن بقايا قصر البنات وتاريخه؟ عن المدينة العتيقة الجديدة التي عبرتها حتى النهر حيث تعشيت مع سكان المدينة وأصدقائي الكتاب؟ تنتابني هذه الأحاسيس وأنا أتذكر هذه المدينة التي منحتني وسامها الذي يحمل اسم العجيلي، وأكرمتني قبل عشر سنوات.
قبل أن يغزوها المغول الجدد بإيديولوجيتهم العدمية التي سرقت النور من المدينة، والحب من عيون ذويها، وزرعت الرعب والخوف والرماد في كل مسالكها. مع ذلك، مهما كانت سطوة الحزن والخسارات التي لا تُعوض أبدا، نتمسك بالأمل، وعندما لا يتوافر، نبدعه كما قال سيرفانتس منذ أربعة قرون على لسان دون كيخوتي دي لامنشا، وهو يواجه سطوة محاكم التفتيش المقدس الإخوة التوأم لداعش في زمانها، في القرون الوسطى عندما كانت تمزق الناس فقط لأنهم يختلفون في أديانهم السماوية عن معتقدنا المغلق. كانت الرقة إحدى مدني التي أحببت في سوريا لتاريخها ولأصالة ناسها قبل أن يجيء العدميون ويسرقوا أناقتها وتاريخها، ويأكلوا الأخضر واليابس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى