المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

إزمير والإسكندرية وبيروت: مدن الحنين إلى المشرق

 

تكمن أهمية هذا المؤلف في أنه يؤرخ تأريخاً تفصيلياً وبانورامياً لثلاث مدن مشرقية متوسطية: سميرنا (إزمير حالياً) والإسكندرية وبيروت، باعتبارها كانت مدناً كوزموبوليتية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، سوى بيروت التي تأخرت سنوات عن المدينتين الأخريين، واستمرت كوزموبوليتية حتى بدايات الحرب الأهلية في لبنان عام 1975.
كوزموبوليتية موقوفة
اجتمعت في هذه المدن جاليات وثقافات ولغات كثيرة مختلفة (وهذا هو معنى الكوزموبوليتية)، لكن الكتاب يذهب مذهباً مخالفاً لمعظم المؤلفات التاريخية التي اعتبرت أن تعايشاً وتخالطاً قاما بين هذه الجاليات وأهل البلاد. هذا إضافة إلى أن تلك الجاليات نفسها عاشت متجاورة. ففي مقدمة هذا الكتاب يتساءل المترجم، انطلاقاً من مضمون الكتاب نفسه: هل كان هذا المشرق فعلاً جنّةً للتعايش بين الأقوام والأديان كما في المخيلة المصرية والاسكندرانية تحديداً، الميّالة إلى الحنين إلى الماضي وتمجيده، ونسيان ظلماته ومظالمه وأهواله، وكما في الروايات المشرقية الاسكندرانية العربية الكثيرة، إضافة إلى الأجنبية؟ هل كان المشرق ذلك المجتمع التعددي الجميل المترابط والمتحاب الذي ظهر في أفلام الأسود والأبيض المصرية؟ وهل كان أيضاً كما في الروايات المشرقية الكثيرة التي كتبت باللغتين الفرنسية والإنكليزية عن الاسكندرية؟ هل كان هذا الشرق هو البقّال اليوناني الطيّب والتاجر اليهودي المصري على رغم خبثه وجشعه، النمطيين في الأفلام المصرية، والباحث الإيطالي والنادل الفرنسي اللذين يتحدثان لغة عربية مكسرة؟
البكاء على المشرق
الإجابة عن هذه الأسئلة من وحي هذا الكتاب، الذي بدوره يبكي مدن المشرق هذه هي: «لا» قاطعة.
فعلى رغم اختلاف الظروف المحلية في المدن المشرقية الثلاث، فإن شيئاً من ذلك التعايش لم يحدث، إذ تجاورت الجماعات والجاليات المختلفة تجاوراً من دون أن تتماس أو تتقاطع أو تندمج. ووجدت الثقافات المختلفة وأثّرت كل منها في الأخرى من دون أن تنتج ثقافة جامعة ومشتركة، ووجدت أيضاً لغات مختلفة من دون أن يهتم أحد ناطقيها بأن يتعلم لغة الآخرين، باستثناء اللغتين الإيطالية والفرنسية اللتين كانتا لغة المشرق على التوالي. والجاليات الأوروبية والتركية التي عاشت في إزمير والإسكندرية خصوصاً، هي التي كانت على ثقافة كوزموبوليتية لكن منفصلة عن أهل البلاد المحليين. وكان الناتج في هذه المدن جاليات وطوائف متجاورة ومتعادية يسود بينها الظلم والاحتقار العرقي والديني على الأقل من جانب جناحي السلطة: العثماني والغربي من جانب والأهالي من الجانب الآخر. ففي مقابل سيطرة الأوروبيين على التجارة والاقتصاد في كل من إزمير والإسكندرية ساعدت بيروت مسيحييها في الاحتفاظ بالتجارة لعائلاتها الكبرى، وهذا ما سمّاه المؤلف «جمهورية التجار» في بيروت، الذين استخدموا الحماية القنصلية الأجنبية لمساعدتهم في المنافسة مع التجار الأجانب. لقد كان المشرق في هذه المدن سيئاً لأهالي البلاد وأشبه بجنة للجاليات الكوزموبوليتية.
جنة الإسكندرية
يذكر المؤلف ان الصورة الطوباوية للمدن المشرقية الكوزموبوليتية نشأت خصوصاً في الإسكندرية في العقدين الأخيرين من عمر المشرق، وتحديداً في الأعوام ما بين 1936 – 1956. ففي عام 1936 ألغيت الامتيازات والمحاكم غير المختلطة، وفرضت المساواة بين الجاليات الأجنبية وأهالي البلاد المحليين. وفي هذه المدن الثلاث بلا استثناء كانت هناك قسمة طبقية جلية: طبقة رأسمالية كوزموبوليتية متنوعة المصادر، وطبقة معدمة فقيرة جداً. وشهدت المدن الثلاث تحالفاً طبقياً بين أعراف وأديان وجنسيات مختلفة من العثمانيين والمصريين واللبنانيين والأوروبيين.
وتوافق هذا التحالف على استغلال أبناء البلاد المحليين واقصائهم، ويتضح هذا النمط في القسطنطينية أو إسطنبول وإزمير والإسكندرية وفي بيروت، وإن كان ظهر في أجلى صوره في الإسكندرية.
سيّد درويش وفيروز
تقدم هذه الرواية عن المدن المشرقية الثلاث صورة صادمة للبعض، لكنها الحقيقة التاريخية بصرف النظر عن الحنين إلى الماضي أو الصور الذهنية المتخيلة. ويكتب المترجم في مقدمته أنه ترجم هذا الكتاب على صوت وموسيقى سيّد درويش الاسكندراني، وفيروز اللبنانية البيروتية، والمواويل الحلبية ذات الجذور التركية، ويعترف أنه في هذا ينسج على منوال الصورة النمطية الوردية للمشرق الكوزموبوليتاني. لكن آهات القتلى والمعذبين وطقطقات ألسنة اللهب وعبارات الاحتقار وايماءات الازدراء والغطرسة العرقية والدينية وعبارات الاستعطاف وايماءات الذل والانكسار (في إشارة الى واقع المشرق الحالي) حجبت صوت سيّد درويش وفيروز وصباح فخري تماماً كما سوّدت صور الترف المفرط والغنى الفاحش في مقابل البؤس الكامل والفقر المدقع والتجبر على الضعفاء واذلالهم، تلك الصورة الوردية والنمطية للمشرق.
كان كل من التنوع والمرونة جوهر هذه المدن المشرقية. فكانت مهرباً من سجون القومية والتعصب الديني، اذ كان الناس يغيّرون هوياتهم بالسهولة عينها التي كانوا يغيرون بها لغاتهم. هذا ما فعله محمد علي باشا الذي حوّل الإسكندرية في أوائل القرن 19 من منطقة مقفرة إلى مدينة كوزموبوليتية. وهذا ما فعلته أيضاً أسرة بالتازي في إزمير التي كانت في الوقت عينه يونانية وعثمانية وأوروبية. وهذه أيضا كانت حال عائلة سرسق البيروتية والتجارية التي انتشرت أعمالها بين الإسكندرية والقاهرة والقسطنطينية وإيطاليا. وهناك أيضا الشاعر الاسكندراني العظيم قسطنطين كفافس، الذي سار على درب كثير من قاطني هذه المدن حين اختار لنفسه كثرة من الهويات واللغات المختلفة. وهناك أيضاً كتّاب بيروت ثلاثيو اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية.
صورة لبيروت
لكن المؤلف يختتم مقدمة كتابه بأن بيروت، آخر مدينة مشرقية، ذاهبة نحو التريّف والرثاثة. فالاستقطاب الديني المتزايد في أحيائها المختلفة، واغتيالات السياسيين والكتّاب منذ مقتل رئيس الوزراء السابق ورجل الأعمال الدولي في فبراير 2005، وصعود حزب الله الشيعي في ضواحي بيروت الجنوبية، تكشف جميعها أن بيروت تتحول إلى مدينة متجانسة، كما حدث مع المدينتين الأخريين إزمير والإسكندرية.
يبقى أخيراً أن نشير إلى أن مؤلف هذا الكتاب هو مؤرخ البلاطات والعائلات الحاكمة وأحد أهم أعماله: «بلاط فرنسا»، «تاريخ باريس بين الامبراطوريات»، ويعدّ كتابه «القسطنطينية: المدينة التي اشتهاها العالم (1453 – 1924)» من أمتع ما كتب عن تاريخ المدينة والامبراطورية العثمانية، وقد صدر هذا الكتاب سابقاً في سلسلة «عالم المعرفة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى