المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

الصخب والعنف في وداع كاتب الشباب

 

الرثاء الأول: موت الكلام
فور إعلان الوفاة المفاجئة للكاتب المصري أحمد خالد توفيق، اندفعت الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تُعلِن صدمتها وحُزنها وحِدادها، وتشير على استحياء، سرعان ما توارى ليصبح تقريرا حادا ومتشنِّجا، عن كاتب عبقري، قديس، وعرّاب للأجيال الشابة الجديدة، ليبرز على الجانب الآخر، فيلق من الحسابات «يُعلن» عن موقف مضاد، فحواه أنه في الأغلب كاتب شعبوي متواضع المستوى، «لأنه لم يصل إلى مسامعنا نحن المثقفين الحقيقيين»، أو يؤكد أنه كاتب متواضع المستوى وأن هذا الحزن «مبالغ فيه» ويستحق السخرية والنقد.
يقول المُحلل النفسي والكاتب الأميركي ستيفن غروتز في أحد اللقاءات «أكثر وأكثر يبدو أن الناس على مواقع التواصل الاجتماعي يبثون إرسالهم لكن لا يفكرون، في الحقيقة أنهم يريدون إعطاء رسالة عمّا يكونون، بشكل متزايد يؤدون عرضاً حتى أصبح الأمر كرة من الثلج».
ما يحدث هذه الأيام هو حالة نموذجية في مواقع التواصل التي تبدو مشتعلة دائماً؛ فوضى من الكلام وزخم مستمر من المنشورات والتعليقات وردود الأفعال في حالة توهّج عُصابي دائم، كأنه يريد أخذ الواقع بقوة وضربه على رأسه. لكن مع كل هذا الزحام والزخم، والسهولة التقنية المتاحة، يبدو في الحقيقة أن لا أحد يكلم أحداً، «حوار طرشان»، حتى بات التعبير الساخر «مواقع اللاتواصل الاجتماعي» متداول ومعروف بعد مرور أكثر من عشر سنوات على انتشار تلك المواقع.
فما يصاحب شهوة الكلام والتعليق على كل حدث ومناسبة، هو كلام لا يحمل تفكيرا ولايشكّل تواصلا حقيقيّا وتفاعليّا ،بل مجرد مجموعة من الرموز والإشارات التي تشير إلى «موقف»، «مكان»، «قيم» شخصية، لتكوين صورة ذاتيّة افتراضيّة في ظل إعلاء مفهوم «السرديّة الشخصيّة»؛ الذات كقصة يتمدد وجودها عن طريق الاستعراض، وتحضر هويتها بمجرد الإعلان عنها، وتحدث تأثيراً عن طريق ظهورها المحض، الذي بوصفه سرديّة شخصيّة ذاتيّة فهو لا يقيم وزناً لمكان «الآخر» في خطابه ولا ممارسته، ويدفع إلى الحدود القصوى في محاولة لزيادة جذب الاهتمام والاعتراف والتأثير، ويرى كل سردية أخروية تهديداً له، تنتهك حقوق وجوده ؛كلام الآخر تهديدٌ دائم، لأن الآخر دوماً غريب ومقحم من الخارج، ولا رابط يصل به سوى كلام مبتور وميت.

الرثاء الثاني: الشعور والفكر
هذا الزخم، بطبيعة الحال، يحتوي على إشكاليتين: الأولى هي الحزن كشعور شخصي وحميمي يُطلق في المجال العام، الأمر الذي كان مؤشكلاً منذ ظهوره، فمع بداية انتشار مواقع التواصل، كان من غير مألوف أن يُعلِن أحدهم وفاة أحد أقرابه أو حزنه الشخصي لذلك على الملأ، لكن مع تطور الاستخدام أصبحت تلك المواقع تقريباً الوسيط الأساسي لإعلان حالات الوفاة والتأبين وحتى إقامة عزاءات افتراضيّة.
استمرار الإشكال أخذ منحى آخر، وهو أنه يبدو في كل مرّة حاداً ومستفزاً، فهو يبدو كتقرير حقائق عامة، لا تقبل النقاش والرد بسبب العاطفة المحتدمة المحاطة بها، في لعبة حدّية إذا ناقضها أحد أو ساءلها أصبح «شريراً» أو معدوم المشاعر، أو في أفضل الأحوال معتوهاً يستحق الإهانة، في الوقت نفسه الذي يبدو فيه هذا الإعلان الخاص/العام مُزيفاً، عَنيفاً، ومتعديّاً.
يمكن النظر للأساس الايديولوجي لهذا الإشكال بالرجوع مرّة أخرى إلى فكرة السرديّة الشخصية المساوية للوجود؛ سياسات الهوية والاعتراف Recognition تجعل من الشعور، أو «أنا أشعر» (وليس مثلاً المبدأ الديكارتي للذات «أنا أفكر») أساساً للهوية والذات وسرديتهما الخاصة، لأن الشعور ذاتوي، يخص صاحبه ويطابق ذاته (وهو «واقعة» بالفعل من هذه الزاوية)، لكن بما أن الحضور في المجال العام أصبح يتم عن طريق طرح هذه السردية، فأصبح الآن مطالباً من الشعور أن يكون واقعة موضوعيّة، يندفع داخلها الوجود الشخصي كله: أنا حزين (لوفاة، فقد، إلخ..) وهذه الواقعة التي تمثلني، لابد أن يتم قبولها كحقيقة موضوعية والسير حذوها والتصرف على أساسها من قِبَل الآخرين.
ما يجعل هذا الشعور-الواقعة يبدو «مزيفاً» هو بالضبط ما يفترض جعله «حقيقة» بالنسبةللآخرين، أي حدته وموضوعيته؛ مجرورا إلى دور غير قادر على تأديته، يُدفع الشعور إلى حدوده القصوى ويتصرف كحقيقة موضوعيّة من المفترض لها التأثير والحضور بشكل تام. ومن هنا يظهر عنفه الخاص، في محاولة للحفاظ على تماسكه وقوته، مناوئا ما يعترضه ويتقاطع معه من مشاعر-وقائع مخالفة من الآخرين، في تصادم يتصاعد باستمرار في دائرة مغلقة لا تنتهي لأنه لا توجد معايير مؤسِّسة للتفاوض والتجاور.
هذا الشعور-الواقعة من المفترض أيضاً أن يؤدي وظيفة متنافرة مع طبيعته، وهي أن يفكّر، ويقول، ويسرد؛ وهو ما يفضح العجز الخاص به ويجعله أكثر فجاجة وعنفاً، ويجعل الفكر الخاص به، الذي يعلنه للجميع، بمنزلة حقائق، لأنه مصحوب بطبيعته الخاصة التي تنشأ كواقعة فعليّة حدثت لـ -أو أحدثتها- الذات.

الرثاء الثالث: الخطاب الأدبي
الإشكال الثاني للزخم الافتراضي، وبشكل معتاد أيضاً، هو تسييس الشعور الخاص والحدث الإنساني والكلام حولهما بسرعة شديدة، كأنه تغطية ومنع استباقي لفهم الحدث ومعايشته، وربطه بسياقه الخاص، كما هو بالطبع إعلان موقف-مكان يستخدم المضمون الدائر لتأكيده.
منذ ثورات الربيع العربي، وكان هناك كشف فاضح في إحلال الخطاب الأدبي للخطاب السياسي في المجال العام؛ ليس فقط التعاطي مع الواقع من خلال منصات «الأدب الثوري» و«الأدب السياسي» و«الأدب المقاوم»، التي سرعان ما انهمرت حتى قبل أن تبرد الأحداث في الشوارع، بل بشكل أعمق، وهو رؤية الواقع من خلال الخطاب الأدبي الذي يعد تمظهراً، محصناً بأجهزة وأدوات بلاغيّة وخطابيّة، لما هو شعور شخصي وفرداني وخاص، تنتظم من خلاله الرؤية في استعارات وبنيات القصة الأدبية بمعناها البسيط والبدئي (على غرار «سندريلا» و«الشاطر حسن»، إلخ..)، لتؤسطر الواقع متغاضية عن التعقيدات والإشكاليات الصعبة الموجودة به، بتوزيع أدوار الخير والشر والبطولة وإلخ.. على أطرافه، حتى بدت الكثير من المقالات والمنشورات والتعليقات السياسيّة كمقاطع ساذجة مستوحاة من روايات ماركيز أو قصائد نثر رديئة الصنع.
النتيجة العكسيّة التي ترتبت على ذلك الإحلال، هو دخول الخطاب السياسي في تقييم الأدب وماهو خاص، فتصبح وفاة الكاتب الأدبي حدثاً لتقييمه سياسياً وأخلاقياً، هو الذي اختار الأدب مجالاً حيوياً له، ويتم الحكم عليه من خلال مواقفه السياسية التي اتخذها في حياته، لا منجزه الأدبي ولا تأثيره ولا موقعه من المشهد والتاريخ الثقافي. وهو ما يظهر هيمنة فكر الصوابيّة السياسيّة التي تحكم على ما هو أدب وفن أخلاقوياً، ويمكن رؤية ذلك من خلال مهاجمة الكاتب الراحل لأنها تحسبه على تيار سياسي معين، أو تأييده بسبب مواقف سياسيّة اتخذها، ومن خلال أيضاً وضعه في تضاد مع الاسم الآخر الكبير في كتابات النشء العربي، وهو الكاتب نبيل فاروق، المحسوب على تيار سياسي مناقض بشخوصه الرئيسيّة في سلاسله وأعماله الأدبية التي تكون في العادة ضباط مخابرات ومقاتلين عسكريين إلخ..، مستخدمين الحجج نفسها التي تم استخدامها ضد الراحل في اختزاله بصورته السياسيّة، رغم ما له تأثير مشابه في النشء ولمن له ذاكرة، أكبر بكثير.

الرثاء الرابع: المشهد الثقافي
كان أحمد خالد توفيق كاتب مراهقتي المفضل، لكني في نهايات تلك المرحلة، وكما يحدث غالباً مع قصص الحب المُراهقة، تكشّفت لي العيوب والثغرات في أعماله، والتي تعبر عن مآزق عميقة تواجه المشهد الثقافي والأدبي المصري، والعربي ككل، بداية من الاقتباس الكسول الذي يصل إلى حد النقل (في هذه الحالة من كتاب أجانب مثل ستيفن كينغ وغيره من الكتّاب)، ممارسة «التكوين العكسي» أو ما يسمىReverse Psychologyالذي يستدر عطف وتأييد القارئ، الكراهية المبطنة، وأحياناً المعلنة، للفلسفة بدخول اليقين الديني، مما كان يشوه ويكبت البنيّة العميقة لأدب الرعب بصفته فتح ثغرات ميتافيزيقية في الوجود الإنساني وتأمله من خلالها، الاختزال والاختصار الملول (وهو ما حاول استدراكه في مرحلة الروايات المتأخرة)، تملُّك (والادعاء غير المصرح به) للمعرفة بتسمية كتاب وكتب ومراجع دون قراءة حقيقيّة أو هضم لما يمثلونه حقاً.
رغم ذلك تظل للرجل مكانة تعليميّة وأدبيّة وثقافيّة في ظل خواء وفقر المؤسسات المنوطة بتلك المجالات، ويظل في محاولته لتمصير أدب الرعب والخيال العلمي (مشتركاً مع كتاب آخرين أبرزهم الكاتب نبيل فاروق) فاتحاً لأفق وخيال أدبي جديد، كان ثمرته عشرات من الكتّاب الحاليين على اختلاف مستوياتهم، ويظل في تاريخ الثقافة والكتابة العربية ظاهرة أدبيّة واجتماعيّة تستحق الدراسة، بل ونفسية أيضاً، لأنها، من ناحية نفس-اجتماعية، تطرح سؤالاً مثيراً: لماذا انجذب النشء والمراهقون المصريون في فترة التسعينات وبداية الألفيّة لشخصيّة كهل/عجوز عليل الصحة دائم التدخين، متشكّك وملول وسوداوي المزاج، في حين كان أقرانهم في بقاع أخرى من العالم يحبون شخصيّة طفل له قدرات سحرية خاصة يستطيع أن يغير بها العالم، وأبطالا خارقين بكامل عنفوانهم وصحتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى