المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

صورة لطرابلس اللبنانية من محكمتها الشرعية

أعاد المؤرخ والدبلوماسي السابق خالد زيادة إصدار طبعة ثانية من ثلاثيته: «مدينة على المتوسط»، التي تضم الكتب التالية: «يوم الجمعة يوم الأحد»، «حارات الأهل جادات اللهو»، «بوابات المدينة والسور الوهمي». وترصد هذه الثلاثية تحولات مدينة طرابلس خلال بضعة عقود في النصف الثاني من القرن العشرين.
لا تسعى الثلاثية هذه إلى كتابة سيرة ذاتية أو تدون وقائع أو إحياء تقاليد زالت، بل حاولت كتابة سيرة الأمكنة في زهوها واندحارها كما عاشها الكاتب، سيرة متقطعة للأوقات الحياتية المتغيرة.
هي سيرة للعمران، للدروب والناس والأحياء، وسيرة للرجال والأفكار والصور المعلقة بخيطان من القنّب وسط أحياء المدينة أو الملصقة على الجدران.
وفي هذه المناسبة نتعرف الى صورة لطرابلس من خلال سجلات المحكمة الشرعية والتي تشكل مادة خلفية للثلاثية.

المحكمة الشرعية
كان مبنى المحكمة الشرعية في جادة السرايا قد تبدّل ثلاث مرات، فقد بقي المدة الأطول في الموقع القديم داخل المدينة غير بعيد عن السوق. هناك عاشت المحكمة عصرها الذهبي حين كان قاضيها موضع أنظار أهل المدينة. وانتقل المبنى إلى الساحة العامة في عصر التنظيمات العثمانية، حيث أقامت ستة عقود أو سبعة، وكان قضاة المحكمة محط تجاذب بين التقاليد التي درجت عليها والتحديثات التي كانت تأتيها من اسطنبول، وانقسم رجالها بين اتجاهات العصر وتياراته.
أما في الطور الأخير، فقد أقامت المحكمة في هذا المبنى الذي لا يوحي طرازه بعمرها المديد، الذي تتقاسمه العصور المتعاقبة. ومع ذلك يتساءل الكاتب كيف أمكن للمحكمة أن تحتفظ بوثائقها التي حملتها خلال ثلاثة قرون من الزمن من مبنى إلى آخر، فينتابه شعور بالتعاطف مع أولئك القضاة والكتّاب، الذين تعاقبوا على تدوين القضايا سنة بعد أخرى وجيلاً بعد جيل، وحرصوا على حفظها والاعتناء بها والتي تختلط فيها التركية بالعربية، وتتداخل الفرمانات مع الدعاوى والوقفيّات.
ليست الوثائق التي تتضمنها السجلات مواد للتاريخ فحسب، بل هي أشبه بمذكرات مدينة دوّنها كاتب يملك حشرية لا تقاوم، ونظرة ثاقبة إلى الناس ومعرفة أحوالهم ووقائعهم. وخلف الوقائع والأخبار تروي الوثائق أخبار الناس في يومياتهم، بسطائهم وكبرائهم، السادة والوجهاء ومشايخ الحارات ومشايخ الطوائف. وتروي بحبر واحد أخبار الولاة، إلى جانب القاصرين واليتامى، وأخبار الملتزمين إلى جانب صغار العامة.
وانطلاقا من هذه السجلات تعرف الكاتب الى السادة والعبيد والتجّار وما يملكون، والسفن المبحرة والغارقة، وقناصل الدول، بل تعرّف إلى نساء قادرات وغيرهن من الماكرات، ومشاكل الزوجات مع الأزواج، ورجال التقوى ورجال السوء، والعلماء من خطباء وقرّاء ومدرّسين ووعّاظ وأئمّة.

المدينة ــ الدولة
ومن خلال هذه الوثائق تبدو المدينة أشبه بدولة يحكمها السادة الغرباء، الذين لا يتكلّمون لغتها، هم وجنودهم وحرّاسهم. وكانت القلعة تحتضن الحامية، فيحفظون أمنها ونظامها. حارات تقفل ليلاً فتغلق بوّاباتها، يتكلّم باسمها مشايخ الحارات ومشايخ الحرف ومشايخ الفقه. يأتي الناس إلى المحكمة ويذهبون، وهي التي تشكل نقطة ارتكاز عيشهم وضمان حقوقهم.
وفي ذلك الزمن كانت المدينة بداية العالم ونهايته، لولا أن حكامها يأتون من أمكنة بعيدة. لكن ذلك لا يبدّل من كون المرء يولد فيها ويعيش ويعمل ويهرم ويموت، كأنه يعيش في رحم أمّه قبل أن تلده. مدينة يولد فيها الغريب غريباً ويموت غريباً، هي نفسها التي تحتضن الغرباء وتجعلهم أولادها فينتسبون إليها.
ويروي الكاتب كيف عرفته السجلات إلى شخصيات المدينة، مثل نقيب الأشراف وإمام الجامع الكبير وشيخ محلّة النورية وأسقف الملّة المسيحية وشيخ التجّار والمعمار باشي وشيخ القصّابين، وشيخ السبعة وآغا الانكشارية والباشا المعزول والدفتردار ومحاسبه.
وتعرّف أيضا إلى حوانيت المدينة ودكاكينها وأفرانها وطواحينها ومساجدها وحمّاماتها.. تم تساءل: أي تاريخ يمكنه أن يجمع كل هذا العالم الذي تختصره المدينة؟

عالم الإرث والمواريث
وفي تلك المدينة كان العالِم يرث العلم عن أبيه ويرث عنه وظيفته، والتاجر يرث تجارة والده، والحرفي يرث حرفة معلّمه، والعبد يرث العبودية إلاّ من منّ عليه سيده بالحرية. والثري يرث الثروة، ويرث الفقير الفقر. هكذا تتعاقب الأجيال بعد الأجيال، يتبدّلون ويتخاصمون ويرحلون، ويبقى نظام حياتهم وعيشهم لا يتبدّل ولا يطرقه الفساد. ليس ثمّة تاريخ بل وقائع لا تقلق استقرار مدينة تعيش وفق توقيتها وزمنها، الذي لا دلالة على سريانه سوى تواريخ القضايا التي يوقّعها الشهود. ولا يبدّل من هذا الاستقرار موت والٍ أو استبدال قاض، ولا خسوف أو كسوف ولا غرق سفينة أو وقوعها في أيدي القراصنة أو عودتها محمّلة بالسكّر والأرز، أو وقوع معركة أو موت سلطان، فكل ما يحدث يدخل في انتظام أمور الكون والخلق وأولياء الأمور، وانتظام السنن والشريعة التي ينطق بأحكامها الحكّام ويؤمّنون استمرار نظام الكون والسياسة والمدينة والعائلات والسوق والبيع والشراء والزواج والطلاق والحياة والموت والبالغين والقاصرين والعاقلين والمجانين والنساء والرجال والمسلمين وغير المسلمين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى