المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

مقالات

حين لا يُكتب المجد… وتكتبه الأرض

محمد تهامي
ليست كل البطولات تُروى، ولا كل القلوب التي أنفقت نبضها تُذكر. ففي أقصى زوايا إفريقيا، حيث تسكن البدايات الفقيرة في بيوت من طين وأحلام من قلوب لا تعرف الاستسلام، تنشأ المشاريع التي لا تكتفي بأن تُنقذ الواقع، بل تعيد صياغة الإنسان.

كان مشروعًا تنمويًا في إفريقيا… لا يحمل اسمًا طنانًا، ولا لافتة راعية من عواصم الشمال. مجرد فكرة صغيرة في دفتر شاب لا يملك إلا إيمانه، وقلبه الممتلئ بالناس. جاء إلى الأرض بعد موسم مطير، حين التصقت الأقدام بالوحل، فغاصت فيها روحه قبل أن تغوص قدماه. لم يأتِ ليبني مجدًا، بل ليكون جزءًا من حياة قد نسيها العالم.

مرّت الأيام، وتحوّلت الفكرة إلى لبنات، واللبنات إلى حجر، والحجر إلى صرح لا يستقبل الناس فقط، بل يردّ لهم كرامتهم. مجمع تعليمي صحي إنساني، يخدم عشرات القرى، ويمنح الطفولة بابًا إلى الغد. لكن الغد، كما يُقال، لا يحفظ كل الأسماء. فحين جاء يوم الافتتاح، واصطفّ المتحدثون، لم يُدعَ الشاب إلى المنصة. ولم يُذكر اسمه في كلمة ولا في كتيّب ولا على حجر التأسيس. ومع ذلك، كان حاضرًا… في طابور الأطفال، وفي وجوه الأمهات، وفي ذاك الشق الخفيف على جدار المبنى الذي ما زال يحمل أثر يده حين صلّبه ذات ليلة باردة.

قال تولستوي: “العظمة الحقيقية لا تحتاج إلى إعلان، فهي تسكن الأشياء بصمت.”
وهكذا فعل الشاب. وقف بعيدًا، وابتسم كأن شيئًا لم يكن. لكن الحقيقة التي لا تكتبها المحاضر، هي أن المجد لا يُكتب فقط بالحبر، بل يُحفر في الأرض، وتكتبه الحياة نفسها لمن كانت نواياهم أكبر من أسمائهم.

حين نكتب عن المشاريع، نُغرَم بالإحصاءات، بالخريطة، بالأثر الملموس. لكننا ننسى في زحام الأرقام أن هناك من كان أول من حلم، وأول من صدّق، وأول من تحمّل الإخفاقات الأولى. في كل مشروع ناجح، روح لا تُرى، كانت وقوده في الظل. وهذا ما يجعل الفرق بين “منفذ” و”مُلهِم”، بين “مدير مشروع” و”صاحب وجع”.

قال المهاتما غاندي: “أفضل طريقة لتجد نفسك، أن تذوب في خدمة الآخرين.”
وهكذا يفعل النبلاء. لا يتركون تواقيعهم، بل يتركون أثرًا. لا يرفعون صورهم، بل يرفعون الناس. والمشاريع التي كتبوا سطرها الأول، قد لا تُسجَّل بأسمائهم، لكنها تبقى جزءًا من سيرتهم… وسيرة السالكين طريقهم.

في إفريقيا، كما في بقاع أخرى من العالم، نحتاج أن نعيد التفكير في سؤال: من يستحق الذكر؟ ومن يحق له أن يُكرَّم؟
في ثقافات متقدمة، يُوثق كل من ساهم، مهما كان دوره صغيرًا. يُكتب تاريخ المشروع من أول ورقة إلى آخر حجر. تُمنح الأوسمة للذين حملوا الطين، كما تُمنح للذين قصّوا الشريط. بينما في ثقافات أخرى، يتم طمس البدايات، ومحو الأسماء، وكأن شكر من سبق هو تهديد لمن جاء لاحقًا.

“من لا يشكر الناس لا يشكر الله”، هذا ما قاله النبي ﷺ. وفي هذا الحديث قانون إيماني وأخلاقي ومؤسسي: لا تنسوا من صنعوا المجد، حتى لو لم يعودوا في الصورة.
العدل لا يعني فقط أن تُعطي كل ذي حق حقه، بل أن تحفظ الحق حتى لو لم يُطالب به. أن تقول: “شكراً”، ولو تأخرت عشر سنوات.

وفي كل مشروع تنموي – خاصةً حين يلامس إنسانًا معدمًا أو مجتمعًا منسيًا – تكون الكلمات الأخيرة أضعف من الواقع، إلا إذا نُطقت من قلبٍ رأى وعرف. حين تكتب عن مشروع أنقذ قرية من العطش، أو أعاد التعليم لأطفال بلا مدارس، أو افتتح مركزًا صحيًا في منطقة يموت فيها الناس من أمراض بسيطة… لا تكتب عنه كإنجاز إداري، بل كفصل من فصول إعادة الكرامة الإنسانية.

قال المفكر السنغالي الشيخ أنتا ديوب: “لا توجد تنمية بلا ذاكرة، ولا ذاكرة بلا عدالة.”
وحين نُقصي من ساهموا، نخرّب ذاكرة المشروع. نُفرغها من عدلها. ننسى أولئك الذين ربما باعوا سيارتهم، أو غادروا أهلهم، أو ناموا في مواقع البناء لأشهر دون أجر… فقط لأنهم آمنوا أن هناك قرية تحتاج ما يفعلونه.

وفي كتاب الله، آية تتكرر على أسماع المؤمنين، لكنها تُنسى في المؤسسات:
{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}
البخس هنا ليس ماديًا فقط، بل أخلاقي… حين تُسرق الفكرة، ويُطمس الاسم، ويُلغى الحضور.

الوفاء لا يُكتب بأوامر إدارية، بل يُغرس في الثقافة، ويُعلَّم للموظفين كما يُعلَّم التخطيط الاستراتيجي. أن نقول: “هنا بدأ فلان، ولو لم يُكمل”، أن نُدخل في الأراشيف أسماء الذين رحلوا قبل أن يُفتتح المشروع، أو سُحبت أيديهم منه لأسباب خارجة عن إرادتهم.
أن نمنح الطمأنينة لكل مخلص يقول: “سأبدأ، ولو لم أكن أنا من يَختم”.

في إحدى المرات، زار وفد دولي مشروعًا تنمويًا في قلب إفريقيا، فسمعوا من أهل المكان أن أول من أطلق الفكرة لم يعد بين الفريق. سأل رئيس الوفد: “وأين هو الآن؟”
قالوا: “انسحب بهدوء.”
فقال: “لو كنا نحن، لكتبنا اسمه على البوابة.”
فأجابه أحد الشهود: “اسمه مكتوب… لكنه مكتوب في القلوب.”

أجل، هناك مجد لا يُكتب… وتكتبه الأرض.
هناك سطور لا تُطبع… لكنها تُتلى في دعوات المحتاجين، وتُنقش في ضمير الزمن.
وفي نهاية كل مشروع تنموي، حين تُقفل الملفات، وتُعد التقارير، ويبقى الصرح قائمًا، ستهمس الأرض ذات يوم: “أنا أعرف من كان هنا.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى