المستشارة القانونية:

المحامية روحية رضوان

أخبار الكويت

السرد بين الهم الفردي وصوت الجماعة

 

كان الغزو العراقي لدولة الكويت بمنزلة الكارثة بكل المعايير، دولة عربية جارة تجتاح شقيقتها وجارتها، فتحاول إلغاء وجودها وتستهدف شرعيتها وتشرد شعبها وتضمها كمحافظة تابعة وتستبيحها نهباً وسلباً، وتهتك الحرمات وتقتل الآمنين.
ولأن الأدب مرآة الشعوب ووسيلة التعبير الراقية والطريقة المثلى لإثبات الحالة وحفظها للتاريخ ولحاجات الأجيال التالية كنصوص مرجعية يمكن الاستفادة منها، وكتجارب قاسية تنتج عنها أحكام صادقة تحاكي الواقع في التجارب المستقبلية، وقبل كل ذلك فإن التدوين خير وسيلة لحفظ التجارب الشخصية وتخلص الفرد من ثقل الكبت والكتمان عما يرى أن نشره قد يقدم للوطن والمجتمع حقيقة يمكن الاستفادة منها، فقد كان أدب السيرة او المذكرات هو الباب التدويني الأهم، الذي نال الحظ الاوفر من النشاط الادبي الخاص بالغزو كمّاً وكيفاً، ربما لسهولة الكتابة في هذا النوع من الأدب قياسا بالرواية او الشعر إذا ما توافرت المعلومات الكافية لدى الكاتب.

قسوة الاحتلال تجبر على البوح
كانت قسوة التجربة كافية لتجعل من المواطنين، الذين عاشوا أيامها وعايشوا ذكرياتها المريرة، ان يحتفظوا بكم كبير من المواقف والأحداث والآلام والآمال والشجون، التي كابدوها أو سمعوها ممن كابدها من الأقارب والجيران والأصدقاء، فهذا النوع من الذكريات تضيق بها الصدور ويحتاج حاملها الى ان يبوح بها بطريقة او بأخرى. ولأن الكاتب عادة ما يلجأ الى البوح باستخدام القلم، فإن كم الكتابات التي اتخذ اصحابها طريقة كتابة اليوميات او السيرة كانت الأبرز في ما أسميناه أدب «الاحتلال»، وقد تنوعت الكتابات بين ما يمكن تسميته المواقف الشخصية او الذكريات الذاتية، وبين الكتابة بلسان المجموعة، وهي طريقة يتم من خلالها تدوين الذكريات والصور والمواقف والحالة العامة لمنطقة من مناطق الكويت او فريق عمل معين، وبين التدوين العام الذي يعكس اهتمامات الناس المرئية والمسموعة وهمومهم ومخاوفهم، وكانت معظم الكتابات في هذا الباب تشبه البوح على الورق مما ضاقت به الصدور، ورأى الكاتب حاجته الى البوح به ليعرف من كان خارج الكويت في فترة الاحتلال، ولم يذق مرارة تجربة العيش تحت سلطة المحتل وبطشه ومحاولاته الدؤوبة لطمس هوية المواطن الكويتي ودمجه قهرا مع مجتمع لا ينتمي له او يمت له بصلة، وهي حالة كانت طرائقها الواقعية والعملية قاسية على الذين ظلوا صامدين لم يغادروا الأرض، وقاوموا بكل ما يستطيعون هذه المحاولات التي كانت تمارس في حقهم بقسوة.

مرارة التجربة تحتاج إلى تدوين
كانت الأجهزة الأمنية للمحتل تمارس كل صنوف الضغط والقسوة ضد المواطنين من أجل إجبارهم على الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع، والرضا بالحالة الجديدة التي أراد الاحتلال من خلالها ضم الدولة الكويتية الى دولته، واعتبارها جزءاً من أراضيه، ومسحها من الخريطة دون الأخذ بأي اعتبارات اخرى.
ولأن مثل هذا العمل يحتاج، بحسب مفهوم الدولة البوليسية الذي يجيده المحتل كنظام دكتاتوري شمولي، الى عمل أمني استخباري كبير يتم توجيهه الى الداخل الكويتي للانتقال بالمجتمع الكويتي من حالة المقاومة والرفض الى حالة الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع، ولأن المواطن الكويتي الصامد رفض الاستسلام والتسليم بالواقع الذي أراد الغازي فرضه، وقاوم ذلك بكل ما استطاع، فقد كان ثمن المقاومة كبيرا، راحت ضحيته أرواح وممتلكات، وأنتج ظروفاً نفسية في غاية السوء.
ومن هنا رأى بعض من وجد نفسه قادراً على الكتابة والتدوين أهمية إثبات ما حدث بكل تفاصيله، سواء كانت هذه التفاصيل خاصة تروي تجارب شخصية، او عامة تروي تجربة فئة اجتماعية كأسرة او عائلة أو فئة مرتبطة بعامل جغرافي مشترك كمنطقة من مناطق الكويت، وما حدث بها وما حدث لسكانها ورآه الكاتب بنفسه او سمعه ممن يعرفه ويثق بروايته. على أن المهام الأساسية لهذا النوع من التدوين إثبات قسوة المحتل وإثبات إصرار المقاوم وعزيمته وايمانه بحقه ووفائه لأرضه، وتوفير الموروث الفكري التوثيقي الذي ينقل للاجيال اللاحقة نوع الجريمة، والطرق التي قاوم المواطن بها مرتكب الجريمة. وبعد كل ذلك تبقى هذه الكتابات وثائق يمكن الرجوع لها في الدراسات والأبحاث المستقبلية لفهم الأخطار المحدقة وأنواعها ووسائلها وطرق مقاومتها والإمكانات البدنية والنفسية للمجتمع المقاوم وذلك لمعالجة أوجه القصور ان وجدت، سواء لدى الجهات الرسمية او في الإمكانات والقدرات الشعبية.
وقد تنوعت محتويات هذه المذكرات او السير بين ما كتبه بعضهم عن تجربته الشخصية او عن الصور العامة للحالة المجتمعية التي كانت عليها الكويت من الداخل في فترة الغزو العراقي.

الخوف من القادم
كان معظم ما كتب من سير ذاتية عن أيام الغزو يتراوح بين التجارب الشخصية، التي تدور في معظمها حول الخطر الدائم المحيط بالمواطن الكويتي، وهو يدور بين عدة هموم مخيفة، مثل «الكبسات» الليلية التي كانت تستهدف المنازل أو فرجاناً بأكملها، او نقاط التفتيش (السيطرات)، التي كانت تطوق كل المناطق، او استهداف الممتلكات تحت أي ذريعة، التي كان أهمها السيارات التي كانت مستهدفة تحت عدة أعذار واهية.
لكن اكثر الكتابات شجنا وإثارة للعواطف ما تم تدوينه عن الشهادة والشهداء والسجون والسجناء، وكل ما ارتبط منه بالأذى الجسدي الحقيقي، الذي لم يكن المجتمع الكويتي قد عرفه من قبل وعبر تاريخه الطويل، ولم يتعود على مثله من استهداف عام وشامل أساسه المواطنة وليس لأمر آخر.
على ان وصف مشاهد الدمار، التي طالت كل مؤسسات ومباني الدولة والمنشآت الخاصة، والمناظر البائسة لأفراد الاحتلال وآثارهم، كانت جزءاً مهماً من مواد الكتابة التدوينية، التي يمكن تصنيفها ضمن اليوميات أو السير.
ويبدو واضحا من كل الكتابات التي جاءت في هذا الباب معاناة المواطن الكويتي، الذي بقي في ارضه، والاخطار اليومية التي كانت تواجهه، والتي قد يفقد حريته، او قد يدفع حياته ثمنا لها في أي لحظة، ولم يكن يدور في خلد هذا المواطن، وبعد كل ليلة يقضيها، أن يبقى حيّاً يرزق الى صباح اليوم التالي، لأن العيش تحت الاحتلال في تلك الأيام لا يبعث على الأمل مطلقاً، فالمحتل الذي استهدف الارض الكويتية استهدف المواطن الكويتي أيضا، ولذا فإن المواجهة بين المواطن واجهزة المحتل الامنية كانت يومية ومستمرة طوال شهور الاحتلال السبعة.

البحث عن الأمل في الخارج
كانت الكتابات من هذا النوع تنقسم الى قسمين، أحدهما كتبه أساتذة عاشوا جزءاً من فترة الغزو في الكويت المحتلة، ثم خرجوا فنقلوا صورة صادقة عن الداخل الكويتي في فترة الاحتلال، كما نقلوا صورة صادقة أيضا عن حياة المواطن الكويتي في الخارج وهمومه وهواجسه وترقبه لما يجري في الداخل، والأمل الذي يحدوه في العودة الى الكويت المحررة. على أن الصورة التي تم تدوينها في كتب السيرة بهذا الخصوص تكاد تتشابه، سواء لمن كان يعيش في المملكة العربية السعودية، او من كان يعيش في الدول الخليجية أو العربية أو الاوروبية، والثاني ما كتبه أساتذة عاشوا فترة الغزو كاملة في الكويت المحتلة، فنقلوا كل الاحداث والهموم والهواجس التي كما كانوا يعيشونها أو يعايشونها حتى فرحة التحرير.
ولأن الإنسان بطبعه يحمل المتناقضين معا الألم والأمل، فقد كانت كل السير والمذكرات التي كتبت تروي مآسي المحتل وظروف الاحتلال القاسية، والخوف الدائم من المداهمات أو التوقيف أو بقية الأخطار اليومية، فيما كان المواطن الصامد ينتظر بصيص الأمل أن يأتي من الخارج، فلم يكن لدى الكتاب أدنى شك بالتحرير وعودة الكويتيين، الذين هُجّروا أو غادروا فارين من الجحيم، وكانت معظم أشعة الأمل عبارة عن ذكريات حول الأخبار القادمة من الخارج، التي كان يأتي بها بعض الداخلين عبر الحدود خلسة، يحملون معهم بعض المهربات، كالأموال التي كانت توزع على الأهالي في الداخل، والكثير من الأخبار التي يتم تناقلها بين الناس سريعا، فيتصبروا بها ويعيشوا الأمل، وكانت متابعة الأخبار عبر الإذاعات التي كان يتم التقاطها في الكويت أهم مصادر الأخبار الرسمية، التي كانت يومية وسريعة ومهمة للكويتيين المتواجدين في الكويت المحتلة.
كانت معظم الكتابات الخاصة بهذا الباب، التي اطلعت عليها، تنقل بصدق وبعفوية غالبا الصورتين المتناقضتين، الداخل الذي يشبه الجحيم ولإصرار الأهالي على الصمود والمقاومة، والخارج الذي يمثل الأمل بالجنة الموعودة كجزاء لهذا الصبر والصمود، والتي كان الإصرار والايمان بحتميتها صورة أخرى واضحة في كتب المذكرات التي عالجت فترة الغزو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى